بسام ابو شريف أحد القيادات التاريخية في حركة القوميين العرب ، ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي انتخبته عضواً لمكتبها السياسي في العام 1972. واثناء زيارة لمصر برفقة ياسر عرفات صافح أبو شريف الرئيس محمد حسني مبارك. وكانت تلك هي المرة الأولي التي يصافح فيها قيادي من الجبهة الشعبية رئيساً مصرياً منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد.
تلك المصافحة التاريخية قصمت عري العلاقة الرسمية مع رفاقه، وتسببت بالتحاقه بياسر عرفات كمستشار له في العام 1987. ولم تكن تلك الانتقالة هي بداية عهد الرجل بياسر عرفات، ولكنها جعلته مقرباً من الزعيم الاسطوري للشعب الفلسطيني، وقريباً اليه لدرجة اتاحت له تأليف هذا الكتاب الذي يحمل عنوان (ياسر عرفات) الصادر اخيراً عن الديمقراطي في رام الله. وقد خص المؤلف القدس العربي باعادة نشره علي صفحاتها في حلقات.
والكتاب مقاربة علي عدة مستويات، ومن زوايا مختلفة، لشخصية تماهت مع شعبها، واندمجت مع قضيته بشكل غير مسبوق. انه رواية تاريخية مشوقة لحقيقة سمت الي مرتبة الأسطورة.. حقيقة اسطورية اسمها: ياسر عرفات!
بسام ابو شريف
صورة قلمية
تواري العملاق ياسر عرفات. لكنه باق معنا نحن، وسيبقي مع الأجيال القادمة، وسيسجل التاريخ ان هذا العملاق قاد الفلسطينيين من وضع مشرذم الي وضع متحد، ليقوم الجميع بقيادته بنفخ الروح مرة أخري في قضية شعب ظلمه المستعمرون، واعتدي عليه الغزاة. فقد رسخ ياسر عرفات جذور شجر الزيتون في الأرض المقدسة. وأعاد لها هويتها الفلسطينية الكنعانية. وعبر المستنقعات وحقول الألغام، يقود شعبه في مسيرة العودة الطويلة.
ياسر عرفات أصبح عملاقا لأن شعبه عملاق أيضا. وأدار بحنكة وذكاء تلك العملية التبادلية بينه وبين شعبه، تلك العملية التي رفعت مكانته كقائد وزعيم عالمي يشار له، حتي من أعدائه، ورفع هو بقيادته الفذة والحكيمة، والواقعية، من مكانة شعبه.
من عدم الاعتراف بحقوقنا، ومحاولة طمس وجودنا (لا بل أحيانا نفي هذا الوجود، كما كان يحلو لغولدا مئير ان تفعل)، نقل ياسر عرفات شعبه المناضل والمرابط الي الاعتراف الدولي الكامل بحق هذا الشعب في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
رجل شجاع، عندما تتطلب الظروف شجاعة تصل الي حد المغامرة، وحكيم اذا تطلب الأمر حكمة ومرونة حين تشتد العاصفة.
جدلي في تفكيره، يربط عوامل صنع الوضع السياسي ربطا جدليا، مكنه من قيادة الفلسطينيين عبر المحن وتحت وطأة القصف التدميري، ومحاولة تهشيم ما بناه هذا الشعب من مؤسسات، الي شاطيء الدولة المستقلة.
عندما التقيته في الكرامة، قبل المعركة الأولي بعد هزيمة حزيران (يونيو)، رأيت فيه ذلك الانسان الذي يمتلك نظرة ثاقبة ورؤية بعيدة المدي، لمعني ان نخوض معركة ضد جيش تمكن من الانتصار علي جيوش مصر وسورية والأردن في حرب 1967.
دار نقاش حول ما العمل أمام الغزو الإسرائيلي المعد للأغوار لتدمير القواعد الفدائية التي أقيمت هناك.
كان واضحا:
يجب ان نلقن العدو درسا ونعطي اشقاءنا مثلا مهما كان الثمن، نحن حفنة قليلة أمام جيش الجبروت لكن كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بدعم من الله تعالي.
ان قرارنا بالمواجهة سيعني الكثير، ليس علي الصعيد الفلسطيني بل لكسر طوق الهزيمة الذي احاط برقاب الجماهير العربية من المحيط الي الخليج.
سوف نحدث التغيير، ونعلم الجميع أن بامكاننا أن نواجه، مهما بلغت قوة العدو العسكرية وهكذا كان.
فقد شاهد المواطن العربي لأول مرة علي صفحات الصحف وعبر شاشات التلفزيون الدبابات الاسرائيلية مدمرة وجنودها المقيدين بالسلاسل محترقين.
ونفضت الأمة العربية عن نفسها ترابا ثقيلا من الإحباط والشعور بالذل والضعف، لأنها رأت في نتائج قرار العملاق بارقة أمل جديد.
من انتصار الكرامة انطلق العملاق ليرتفع بشعبه وليرفع مكانة شعبه في العالم.
في العام 1948 قامت العصابات الصهيونية المسلحة بدعم من انكلترا ودول أخري، بتهجير مئات الآلاف من أهل فلسطين نحو الدول المجاورة، وتجاوزت عن سابق إصرار قرار التقسيم (تقسيم فلسطين إلي دولة لليهود ودولة للفلسطينيين ) الذي اتخذ عام 1947 في الأمم المتحدة، واحتلت كل الأرض الفلسطينية باستثناء قطاع غزة والضفة الغربية.
ومنذ الهزيمة التي أنزلتها إسرائيل بالجيوش العربية (مصر، سورية، الأردن) في حزيران من العام 1967، أتيحت للفلسطينيين، ولأول مرة منذ العام 1948 بأن يمسكوا بأيديهم زمام قضيتهم وتحويل مركز القرار الفلسطيني إلي الفلسطينيين.
ومنذ حزيران (يونيو) 1967 بدأ اسم ياسر عرفات بالبروز تدريجيا حتي أصبح القائد والرمز.
ففي العام 1967 برز في الاجتماعات التي عقدت في دمشق، لإنشاء جبهة فلسطينية موحدة لخوض الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وعندما اختلفت قيادة فتح حول اختيار قائد لفتح، تسلل ياسر عرفات للأرض المحتلة، وأمضي أسابيع طويلة، ينظم صفوف حركة فتح هناك، وعاد ليقود حركة فتح دون منازع ونشر بيان مقتضب في العام 1968، في الصحف اللبنانية يعلن أن ياسر عرفات هو الناطق الرسمي الوحيد باسم حركة فتح ، ونشرت له صورة يضع فيها نظارات سوداء تخفي عينيه.
هكذا يعرف المتابعون بداية مسيرة ياسر عرفات. لكن ياسر عرفات كان قد بدأ مسيرته قبل ذلك، فقد التحق كمتطوع في حرب 1948 مع القوات المصرية، كما انضم للمقاومة المصرية أثناء الغزو الثلاثي البريطاني، الفرنسي، الإسرائيلي، لقطاع غزة وسيناء وقناة السويس.
أسس ياسر عرفات تنظيما طلابيا، ضم الطلبة الفلسطينيين الملتحقين بالجامعات المصرية، واستأجر مقرا لهذا التنظيم الطلابي، ليكون خلية عمل دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني. (تحولت رابطة الطلبة الفلسطينيين الي الاتحاد العام لطلاب فلسطين الذي يضم كافة الطلبة الجامعيين الفلسطينيين في شتي أنحاء العالم).
وبعد نيله شهادة الهندسة، توجه إلي الكويت للعمل هناك كما كان يفعل معظم الفلسطينيين، الذين يتخرجون من الجامعات، فقد ساهم هذا الجيل من الفلسطينيين المتعلمين في بناء الخليج العربي مساهمة كبيرة.
ولم تغب فلسطين عن ذهنه لحظة.
إذ نشط أثناء عمله في الكويت لتكوين حركة فلسطينية هدفها تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح، كما فعلت شعوب أخري لتحرير أوطانها.
وبقي يتابع إنشاء هذه الحركة أثناء عمله في الكويت، وتنقله في البلدان العربية، لتجنيد الفلسطينيين لحركة التحرر الوطني الفلسطيني (فتح).
وفي العام 1965 قررت الحركة بدء عملياتها والإعلان عن برنامجها.
فغادر ياسر عرفات الكويت إلي المشرق العربي (سورية ولبنان)، وتعرض لملاحقة واعتقال أكثر من مرة.
لكن الظروف التي ساعدت علي الانطلاق الحقيقي والواسع لهذا العمل الوطني التحرري، كانت ظروف ما بعد هزيمة حزيران.
إذ لم تعد أجهزة الدول العربية المحيطة بفلسطين قادرة عمليا، ومعنويا وسياسيا علي ملاحقة الذين يعملون لتطوير الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. وكانت فرصة التقطها المناضلون ومنهم ياسر عرفات للانطلاق. ولم تعد مبررات عدم التوريط قائمة. فقد احتلت إسرائيل ما تبقي من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة ) وسيناء والجولان. وبهذا سقطت كل ذرائع منع العمل المسلح أو النشاط التنظيمي الرافد للعمل المسلح. كما سقطت ذرائع منع نقل السلاح الخفيف إلي الجبهات.
ياسر عرفات وزملاؤه قيادات المنظمات التي رفعت شعار الكفاح المسلح كانوا يعلمون تمام العلم ان هذه الفرصة مؤقتة، وسرعان ما تزول بإعادة بناء الدول المحيطة بفلسطين أجهزتها وجيوشها.
فأصبح عامل الوقت عاملا مركزيا في عملهم، لبناء شبكة المقاومة المسلحة داخل الأرض الفلسطينية المحتلة وقواعد الإسناد خارجها.
حتي تلك اللحظة كانت التنظيمات الفلسطينية التي تدعو للكفاح المسلح، وتعمل لتهيئة البنية التحتية له، تعتبر خارجة عن قانون الدول العربية.
ففي العام 1964 أنشأت جامعة الدول العربية منظمة التحرير الفلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني اللذين بقيا تحت سقف القرار العربي بشأن الصراع العربي الإسرائيلي.
ونالت م.ت.ف اعتراف الدول العربية ودعمها، وتعاملت معها الدول العربية كممثل للشعب الفلسطيني.
وضع ياسر عرفات نصب عينيه السيطرة علي منظمة التحرير الفلسطينية، التي شكلت اطارا معترفا بشرعية تمثيله للشعب الفلسطيني.
وكان أمر قيادة الكفاح المسلح غير محسوم في تلك الفترة. فقد شكلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قطبا التف حوله الآلاف. وكانت الجبهة الشعبية تحظي بدعم من مصر والعراق في الوقت الذي كان زعيمها الدكتور جورج حبش يرزح في سجن الشيخ حسين بدمشق .
من هنا رأي ياسر عرفات بنظرة ثاقبة أن الهيمنة علي م.ت.ف سوف تعطي فتح دفعة كبيرة علي طريق قيادة الثورة .
وفي الوقت الذي كان يخطط فيه ياسر عرفات للهيمنة علي منظمة التحرير الفلسطينية، خرجت الجبهة الشعبية بموقف يرفض الانغماس في تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني الجديد، الذي سينتخب قيادة فلسطينية جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية. والتقط ياسر عرفات موقف الجبهة الشعبية (الثوري) ليسيطر علي م.ت.ف ، وهكذا تحولت م.ت.ف (الشرعية والمعترف بها) الي هيكل كبير لحركة فتح.
وانتخب ياسر عرفات رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية (وهي عضو كامل في جامعة الدول العربية)، فأمسك ياسر عرفات بذكاء وحنكة بالموقع الشرعي والمعترف به، وبموقع الكفاح المسلح علي الأرض، وظل يمسك بهما. وتمكن في معظم الحالات والظروف من ربط الموقعين، أو الفصل بينهما بذكاء، مما وفر له اكبر قدر ممكن من الدعم والحماية، واستخدم في اللحظات الحرجة الموقعين، الواحد ضد الاخر، ليخلق ربطا فاعلا، كان في معظم الحالات يمكنه من اتخاذ القرار الذي سبكه في ذهنه.
إذ كان عندما يواجه موقفا معارضا في صفوف قيادة فتح (اللجنة المركزية)، كان يلجأ للجنة التنفيذية، ويستخدم رأيها للضغط علي قيادة فتح، والعكس كان أيضا صحيحا، إذ عندما تعارض اللجنة التنفيذية كان يستخدم قرار فتح للضغط علي اللجنة التنفيذية.
واحد من عمالقة العالم السياسيين وأصبح العملاق بعد وفاة جواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر، وجوزيف بروز تيتو، وانديرا غاندي.
ونقول العملاق، لان الذي واجهه ياسر عرفات في قيادة شعبة نحو الحرية والاستقلال، لم يواجهه عملاق آخر من عمالقة العالم، رغم أن ما واجهوه صعب ومعقد وتطلب تضحية عظيمة.
كون ياسر عرفات عملاقا سياسيا، ينبع من كون قضية شعب فلسطين القضية الأعقد في تاريخ البشرية، وينبع أيضا من ضخامة معسكر أعداء القضية الفلسطينية والفلسطينيين، وتكالب هذا المعسكر لتشتيت وتفتيت الشعب الفلسطيني وإذابة هويته الوطنية.
فقد كبر ياسر عرفات بكبر قضية شعبه ونهض شعبه بفضل قيادته وحنكته السياسية، وقدرته علي عبور حقول الألغام، التي زرعت في طريق النضال الفلسطيني في كل مكان، وفي كل اتجاه.
وكلما حوصر ياسر عرفات وقوات الثورة خارج فلسطين، هب الفلسطينيون للنصرة. وكلما اشتعلت نار الثورة داخل الأرض المحتلة، تتحرك قيادة الثورة لإسناد انتفاضة الشعب. تناغم وتضافر ووحدة دون رابط جغرافي، صنعوا المعجزات وشقوا طريق الصخر.
المشاهدون في الغرب، عندما يشاهدون ياسر عرفات، لا يخرجون بانطباع صحيح عن شخصية هذا الرجل، خاصة عندما يتحدث باللغة الإنكليزية ـ فهو لم يدرس في انكلترا أو الولايات المتحدة ليتقن اللغة واللهجة كما يتقنها بنيامين نتنياهو مثلا.
لكن الذين قابلوا ياسر عرفات ذهلوا لان الانطباع مختلف جدا، فشخصيته تأسر، وأدبه الجم وكرمه وسرعة بديهته تلعب دورا أساسيا في رسم الانطباع عند الآخرين.
ياسر عرفات حازم وصارم عندما يبت بأمر بالمهام والعمل والإنجاز.
وهو دمث ولطيف ومهذب مع ضيوفه وزواره من سياسيين وإعلاميين وقادة ومواطنين. حنون علي الضعفاء، يحب الأطفال ويحمي النساء اللواتي يتعرضن للظلم.
ياسر عرفات مسلم ومؤمن، لا يقطع فرضا، لكنه منفتح الذهن ومتسامح ويؤمن بالتعايش والتوحيد.
أمين علي ما عهد به إليه، ويتعامل مع المواطنين سواسية، مسيحيين كانوا، يهودا، أم مسلمين.
جريء عندما يتطلب الظرف ذلك وأحيانا تصل جرأته حد المجازفة. لكنه حكيم في الوقت ذاته ويحسب للأمور حسابها. شجاعته ليست موضع نقاش، فالكل يعرف انه خاض ويخوض معارك شعبه بروحه وعقله وجسده، وهذا ما اكسبه احتراما وهيبة لدي شعبه منذ معركة الكرامة، مرورا بمعارك أيلول 1970 في الأردن، ومعارك لبنان العديدة وأهمها غزو شارون للبنان ومحاصرة قيادة الثورة وقيادة الحركة الوطنية اللبنانية في بيروت العاصمة.
حسه الأمني خارق لدرجة كبيرة، ولا يعتمد في ترتيباته الأمنية الا علي نفسه وجهاز من حرسه الخاص، ينتقي أعضاءه بحذر شديد، ويخضعون لتجربة طويلة.
نجا من عدة محاولات اغتيال حاولت الأجهزة الإسرائيلية القيام بها، وكذلك الطيران الحربي الإسرائيلي. وتراوحت هذه المحاولات من محاولة دس السم له في بيروت إلي قصفه في شوارع بيروت بطائرات اف 16 ، إلي محاولة تدمير مقره برام الله فوق رأسه.
لكنه نجا من كل ذلك بحسه الأمني الخاص، وبسرعة تحركه، وتنقله من مكان لاخر.
ياسر عرفات متواضع وخجول جدا، ونادرا ما يسمح لنفسه بالضحك. فهو متواضع أمام المتواضعين، لكن كبرياء شعبه المناضل تنتصر دوما. عندما يواجه مواقف يشعر فيها أن شعبه تهضم حقوقه، أو يهان، يثور عندها لكرامة شعبه، ويتخذ مواقف تتميز بالكبرياء والعزة.
فكم من مرة رأيته يثور كبرياء أمام رؤساء وملوك تعاملوا مع شعبنا ونضاله تعاملهم مع شعب مهيض الجناح.
يجلس علي الأرض ليتناول الطعام مع المقاتلين، ويتصرف حسب البروتوكول علي موائد الملوك والرؤساء. يقاتل في خنادق المناضلين ويتفقد حرس الشرف الرئاسي عندما يقوم بزيارة رسمية لدولة من الدول. وهو خجول كما قلت ومهذب. يقف دائما عندما يصافح امرأة أو فتاة كما يركع ليعانق طفلا أو طفلة. وعندما يتجرأ احد المساعدين علي رواية نكته من النكت، تراه يضحك بخجل واضعا كفه علي فمه، كأنه يريد أن يخفي ضحكته. يهوي رؤية أفلام الكارتون المضحكة والمسلية وكذلك المسرحيات.
علي مائدته يحرص أن يأكل الآخرون قبله، وغالبا ما يمد لضيوفه الطعام، ويستحسن لهم أصنافا منه وعندما يريد أن يكرم احدهم بشكل خاص يقتطع من صحن الحلاوة الخاص به، شرحة ويقدمها لضيفه أو يناوله لقمة من خبز القمح الصافي مغمسة بالعسل الصافي، (الذي يحبه عرفات).
وياسر عرفات لا يدخن، ولا يشرب الكحول، ويحافظ علي نظام طعام صارم. يحب تناول السمك، ومن الفواكه يحب الجوافة، وفي الصباح يتناول الخضار والذرة الصفراء.
بين الحين والاخر، يحب ياسر عرفات أن يتناول صحنا من الحلوي، واهم الحلوي لديه ما يسمي أم علي .
لكنه زاهد جدا بشكل عام في طعامه ولباسه.
منذ أن غادر الكويت، لم يلبس ياسر عرفات سوي لباس المقاتلين الا عندما اضطر للتنكر أو التخفي، ويرفض أن يكون لباسه العسكري لباسا خاصا، بل يختاره من اللباس الذي يوزع علي المقاتلين.
وأذكر أنني أهديته معطفا عسكري اللون لأنه كان علي وشك التوجه إلي موسكو في زيارة رسمية، ولم يكن لديه معطف حقيقي يقيه برد وصقيع موسكو. احتج في بداية الأمر كون المعطف ثمينا.
فقلت له ان برد موسكو شديد ولا يمكن لثيابك العادية أن تقيك من بردها.
وبعد تردد قرر أن يلبس المعطف وحماه من برد موسكو.
وعرفات لا يحب الطقس البارد ويتحاشاه، ويحب الجو الحار خاصة عندما يخلد للنوم. واذكر أننا كنا نعاني الأمرين من حر بغداد خاصة في الليل، فقد كان الرئيس عرفات يأمر بإيقاف التبريد المركزي عندما يتوجه لغرفة النوم، وكنا نحن نعاني بينما هو يغطي نفسه، دون تبريد بعدة بطانيات.
يحب الجمال ويعجب به سواء كان جمال البشر أو الطبيعة أو الفن.
كان يرتاح ويسر عندما يري أن من يرافقونه يتمتعون بالأناقة والشكل الجيد. ومصدر السرور، كما احلله، هو انه كان يفتخر أمام الاخرين بالشباب الفلسطيني الكفوء والأنيق.
لا يحب السمنة، ولا يفلت ضابط من ضباط الجيش من تعليقه اللاذع، إذا لاحظ ان وزنه زاد عن الحد المقبول، ولا يتردد في ابداء ملاحظة حول الوزن، إذا لاحظ زيادة فيه لدي أي من مساعديه أو وزرائه أو مستشاريه. ويعجب ياسر عرفات بالمرأة الجميلة ولا يتردد في ابداء ملاحظة تمدح جمالها أو أناقتها بتهذيب شديد، فهو يعلم أن هذا المديح سوف يثلج صدر المرأة ويجعلها سعيدة.
قلائل هم الذين شاهدوا ياسر عرفات يمسك بالإبرة والخيط ليغلق ثقبا في جرابه. وأنا احد هؤلاء القلائل. وعندما سألته لماذا تفعل ذلك؟
قال: حتي لا ارمي الجراب وحتي استخدامه مدة أطول، ولان هذا العمل يريح أعصابي قليلا، لأنه يبعدني عن العمل الذهني.
خلال السفرات البعيدة، ينام ياسر عرفات ملء جفنيه في الطائرة، ولا يستيقظ حتي حين تهتز اهتزازا مقلقا. ويستيقظ قبل الهبوط بنصف ساعة ليستعد للعمل.
اذكر أننا اقلعنا للجزائر من تونس في جو عاصف جدا، وكان المرحوم عبد الرحيم احمد ضمن الوفد المرافق للرئيس الذي خلد للنوم علي مقعده. اهتزت الطائرة اهتزازا شديدا، وفجأة هوت الطائرة عشرات الأمتار مما افقد الجالسين توازنهم. وعندها فتح ياسر عرفات عينيه وقال ماذا حصل ؟
ابلغوه بأن مطبا هوائيا كبيرا واجهنا، وان الأمور الآن علي ما يرام.
فأغلق عينيه ثانية وخلد للنوم.
وقرر عبد الرحيم احمد ألا يعود علي نفس الطائرة الصغيرة إلي تونس وان يتوجه بطائرة تجارية كبيرة.
وعرفات مثقف ثقافة عالية من خلال مطالعاته وخلفيته العلمية (كمهندس)، والأحب له ربط معلوماته وثقافته ربطا مفيدا بالواقع السياسي، وبالصراع دوليا وإقليميا ومحليا، فمعرفته بالتاريخ كبيرة، ومعرفته بتفاصيل بعض فصول التاريخ مذهلة. وكنت استمتع بالإصغاء له عندما يسرد قصصا تاريخية ترتبط بالبلدان التي نطير فوقها، ونحن متوجهون في زيارة لبلد ما. سرد لنا مرة تاريخ الأسطول اليمني (حضرموت) وكيف وصل إلي اندونيسيا وسنغافورة. وتحدث عن وسط مدينة سنغافورة وكيف أن اليمنيين حولوه إلي وقف يمني حتي لا يشتريه الصينيون الذين كان يدفعون بموجات بشرية كبيرة نحو سنغافورة.
وبقيت مباني وسط المدينة في سنغافورة حتي اليوم وقفا إسلاميا يمنيا.
وتحدث حول موزامبيق ولماذا يطلقون عليها هذا الاسم؟ فالقائد العربي الذي نزل إلي شواطئها كان يدعي موسي بن شفيق ومع الزمن لفظ اسم موسي بن شفيق موازمبيق.
لم أكن أعرف هذه المعلومات ودهشت وسررت لسماعها.
واكتشفت أن ياسر عرفات كان يلم بعادات وتقاليد كل بلد من البلدان التي زارها، وانه كان يلم بوضعها الاقتصادي، ومشاكلها الاجتماعية والطائفية والسياسية.
وعلي سبيل المثال كان يلم إلماما كاملا بتاريخ وتقاليد القبائل الأفغانية، وتناقضات أفغانستان الطائفية وتناقضاتها القبلية، وكان يلم بأسماء أمراء القبائل ومنافسيهم، أو صلات القربي بينهم. كان مدهشا بالفعل.
يلم ياسر عرفات بتاريخ اليهود، ومدارس الفكر الصهيوني، إلماما كاملا عبر التاريخ الطويل. ويدهش في كثير من الأحيان زواره من اليهود بعمق معرفته هذه.
وبطبيعة الحال يلم ياسر عرفات بتاريخ فلسطين إلماما كبيرا جدا، ويعرف تفاصيل نضال هذا الشعب علي مدي قرون. وكيف واجه هذا الشعب الغزوات الكبري التي تعرضت لها فلسطين.
هذه الصفات المميزة، والمعرفة الواسعة، والخلفية العلمية لدي ياسر عرفات مكنته، استنادا لنضال شعبه، بان يصبح عملاقا من عمالقة الحرية والتحرر في العالم.
وحافظ ياسر عرفات دائما علي العلاقة الوثيقة بصفوف الشعب، وقدرته القيادية علي اتخاذ قرارات حاسمة (وان لم يعجب بها الشعب لفترة من الوقت) مكنته من الصمود والاستمرار.