يحيي الفلسطينيون هذه الأيام الذكرى السنوية السابعة لانطلاق انتفاضة الأقصى، وفي ذات الوقت يحيي الإسرائيليون مرور عامين على الانسحاب من قطاع غزة خريف عام 2005، الذي شكل السابقة الأولى فلسطينيا لانسحاب إسرائيلي من أراض فلسطينية محتلة، بعد أن حققت المقاومة اللبنانية السابقة الأولى عربيا من خلال الانسحاب الإسرائيلي من معظم الأراضي اللبنانية في صيف عام 2000م.
وبتنفيذ هذا الانسحاب القسري، تمكَّنت انتفاضة الأقصى من تجميع عدد من الإنجازات المهمة من خلال العمليات التي نفَّذها رجال المقاومة، مما مكَّنها من الانتقال خطوة متقدمة إلى الأمام، وولوج مرحلة نوعية جديدة من المقاومة، بعد أن حققت أول إنجاز ميداني تمثل بانسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة تحت ضرباتها.
ومنذ اليوم الأول لاندلاع الانتفاضة 28/9/2000م، وحتى منتصف أيلول 2005م، حيث انسحاب الاحتلال من غزة، تمكَّنت المقاومة من تكبيد الاحتلال جنودا ومستوطنين خسائر فادحة، سواء على الصعيد البشري أو العسكري أو الاقتصادي، وبالفعل كشفت أحداث المقاومة المتواصلة أنه لم يعد هناك مكان أو مدينة أو شارع في إسرائيل آمن، ففي الوقت الذي تقلَّصت فيه "سلَّة الأهداف الإسرائيلية"، للانتقام من الشعب الفلسطيني، لا تزال "سلَّة أهداف المقاومة" عديدة ومتصاعدة؛ لأن هدفها بات التحرير، لمرحلة ما بعد الانسحاب من غزة.
وفي ظل الإنجازات التي راكمتها المقاومة، فقد بدا أن آراء نخبة المثقفين والمحللين تميل لتبنّي خيارات المقاومة، وهذا تطور مهم في الشارع الفلسطيني والنخبة المثقفة فيه، يعكس رسوخ القناعة الآخذة في التجذُّر على المستوى الشعبي وأوساط النخب، وحتى بعض المستويات الرسمية بعدم جدوى العملية السياسية الجارية، وعدم قدرتها على تحقيق ما اصطلح على تسميته "الحدود الدنيا للحقوق الفلسطينية"، سيما في ظل أجواء الإحباط التي ينشرها أولمرت مؤخرا عقب لقاءاته المكثفة مع الرئيس عباس.
ولذلك، أثَّرت المقاومة بوضوح، سواء بالتعديل أو التغيير في إستراتيجيات الفصائل والقوى السياسية التي باتت تؤمن بأهمية إعادة الروح لخيار المقاومة لمواجهة الصلف والعدوان الإسرائيليين، وتكرَّرت في الوقت ذاته مطالب للفصائل وقطاعات شعبية بضرورة تقليل الخسائر الكبيرة في الجانب الفلسطيني مقابل إيقاع خسائر أكبر في صفوف المحتل؛ لتعديل ميزان المواجهات في ظل التصعيد العسكري الحاد من قبل جيش الاحتلال في مواجهة الانتفاضة، بشكل لم يسبق له مثيل، مستعينًا بوسائل عسكرية تستخدم في الحروب النظامية أمام جيوش كبيرة، خاصة في ظل ما يواجهه قطاع غزة من تهديدات حقيقة وجادة.
• دروس المقاومة
وهكذا، بعد مرور سبع سنوات على انطلاق الانتفاضة، وما صاحبها من مقاومة متدرجة، فقد استفاد الفلسطينيون دروسا عديدة من هذه المقاومة، أهمها:
1- الحقيقة الأساسية التي ينبغي تذكُّرها قبل كل شيء هي أن انتفاضة الأقصى تختلف عن انتفاضة 1987م، بعدة نواحٍ، لعل أهمها أنها تجاوزت أسلوب المواجهة بالحجارة إلى المواجهة المسلحة، على الرغم من أن النوع الأول من المواجهة مع الاحتلال بقي قائمًا كخلفية واسعة للمشهد القتالي، كما تم استخدام السلاح في انتفاضة 1987، ولكن بشكل محدود.
2- مقاومة انتفاضة الأقصى كانت وما زالت تقاتل في مواقع لا يستطيع جنود الاحتلال التوغل فيها، فهذه الحقيقة لا تقل أهمية؛ لكونها تتعلق بالموقف والخيارات العسكرية الإسرائيلية، وتتجسد هذه الحقيقة في أن المحتل لم يَعُد قادرًا على دخول المناطق التي خرج منها؛ لأن من شأن ذلك أن يزجّ بجنوده في دوائر النيران في الناحية القتالية المباشرة، وعلى المدى البعيد يعرض قواته لخسائر وأعباء فادحة طالما حلم بالتخلص منها في الانتفاضة الأولى، ولعل ذلك المحظور الكبير الذي يواجه "باراك" في اتخاذ قرار اجتياح غزة.
3- إزاء هاتين الحقيقتين يمكننا أن نحدد أساليب التعبير القتالي في الانتفاضة، من خلال:
أ- أول ما واجهتنا به الانتفاضة من صور المواجهة الميدانية أنها بدأت بالفعل بالتحول إلى استخدام السلاح الخفيف المتوفر في القتال، وزرع المتفجرات في أماكن تواجد الجنود والمستوطنين.
ب- اجتراح العمليات الاستشهادية التي تطور أداؤها، إلى جانب استمرار المواجهة بالمولوتوف والأسلحة الخفيفة، مما يعني أن الانتفاضة أخذت منحى طريق التحول إلى شكل قتالي آخر يمنحها تسمية "حرب تحرير".
ت- أفرزت المقاومة تطورًا خطيرًا كان له أثره الجوهري على مستقبل المواجهة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد قام الاحتلال بعزل المناطق التي حدَّدها اتفاق أوسلو بالمنطقة "أ"، بهدف خنق الانتفاضة، إلا أن الوجه الآخر لذلك هو تكريس نوع آخر من شكل "خط المواجهة" أو "خط النيران"، مما أعطى إمكانية لشكل أوسع من الاشتباك المنظم وحرب المجموعات الصغيرة ضد خطوط المحتل التي باتت محدودة من حيث الحجم والامتداد.
ث- هناك ميزة أخرى خدمت تطور الانتفاضة قتاليًّا يوفرها قطاع شاسع من القرى الواقعة تحت السيطرة العسكرية المباشرة التي يحددها اتفاق أوسلو برمز المناطق "ب"، وبعض المناطق الحرجية والكروم الزراعية، ففي هذه المناطق تمكنت المقاومة من استنزاف قدرات الجيش الإسرائيلي، وشكلت مناطق صالحة لتحرك المجموعات المقاتلة المتسلِّلة أو المنظمة.
ج- في الوقت الذي تنافست فيه قوى المقاومة على تكبيد الاحتلال أكبر الخسائر على مختلف الأصعدة، إلا أننا نلاحظ أن كتائب "عز الدِّين القسَّام" الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس سجلت أكبر عدد لتفجيرات السيارات وعمليات الاستشهاديين في المدن الإسرائيلية الرئيسية، يليها سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، فيما يلاحظ أن "كتائب شهداء الأقصى" التابعة لفتح، نفَّذت عمليات إطلاق الرصاص والكمائن المسلحة، تحديدا في الضفة الغربية التي شهدت يوميًّا إطلاق نار ضد المستوطنين وجنود الاحتلال.
ح- تمكن رجال المقاومة من ابتكار أساليب هجومية جديدة وخطيرة ضد أهداف إسرائيلية منتخبة؛ كمحاولة تفجير السيارات المفخخة بواسطة العبوات الناسفة الصغيرة، ومن ثَم تفجير السيارة المفخخة التي كانت تحتوي على كمية كبيرة من المواد المتفجرة والمسامير في حال اقتراب الإسرائيليين، وهي محاولة تدلّ على وجود نمط جديد ينتهجه المقاومون، مما اعتبره الإسرائيليون تصعيدًا وتطورًا خطيرين، دفع وزير الأمن الداخلي السابق "عوزي لنداو"، للقول: "إن الحرب التي تديرها إسرائيل وقوات الأمن ضد الحركات المسلحة هي حرب أدمغة وابتكارات وأساليب جديدة".
• أي مستقبل ينتظر المقاومة؟
لم يكن الانسحاب الإسرائيلي القسري من قطاع غزة، نهاية لمعاناة الجيش والمستوطنين، على العكس من ذلك، فمنذ اللحظة الأولى للانسحاب، بدأت التحذيرات تصدر من الأوساط العسكرية التي تحذر من تزايد المخاطر الأمنية على الحدود خلف خط الهدنة، وجاءت التهديدات من عدة مصادر عسكرية وأمنية، وأكد مراقبون إسرائيليون، أن المستوطنات الواقعة داخل الأراضي المحتلة عام 1948، أصبحت مكشوفة أمام صواريخ المقاومة المحلية الصنع، بل أصبحت في مرماها.
ولعل استهداف قاعدة "زيكيم" مؤخرا بصواريخ القسام، أكبر شاهد على ذلك، ونوهت إلى أن عدة مستوطنات أصبحت في دائرة الخطر من "الأنفاق المفخخة"، التي ابتكرتها فصائل المقاومة، وهو ما قد تلجأ إليه في حال تنفيذ اعتداءات إسرائيلية ضد الفلسطينيين إن كان في الضفة أو في غزة.
كما أعربت مصادر أمنية مسئولة عن بالغ قلقها من احتمال اتساع مدى الصواريخ، سيما عقب تنفيذ خطة الانسحاب من كامل القطاع، وإتاحة مناطق متقدمة تستخدم لإطلاقها، لتطال المستوطنات المحاذية للقطاع، والتي كان يصعب وصول الصواريخ إليها، وعليه فستظل هذه الصواريخ عامل تهديد ورعب لهذه المستوطنات، الأخطر من ذلك، أن هذه المصادر الأمنية الرفيعة، تشير إلى أن الصواريخ الموجودة بيد فصائل المقاومة في قطاع غزة ستهدد 5 مستوطنة إضافية، مع الإشارة إلى أن هذه الصواريخ تطال حاليا مستوطنة "سديروت" في النقب جنوب فلسطين المحتلة والمستوطنات القريبة منها.
وكشف جهاز الأمن العام "الشاباك"، أن قوى المقاومة في قطاع غزة، وخاصة حركة حماس، استغلت فترة التهدئة خلال العامين الماضيين لنقل خبراتها العسكرية للضفة الغربية، وبالفعل تمكنت تلك الخلايا من تنفيذ عدد من العمليات، أهمها إطلاق النار ضد سيارات المستوطنين، وزرع عبوات ناسفة باتجاه حافلات إسرائيلية، وضرب طائرة مروحية "هليوكبتر" في مهبط تدريب تابع لسلاح الجو، والتخطيط لخطف الجنود وأسلحتهم، وجمع معلومات حول أماكن استجمام بغرض تنفيذ عمليات.
ومع ذلك، فإن "الضوء الأخضر" الذي أعطي للجيش الإسرائيلي للرد على تصاعد حدة صواريخ المقاومة وقذائفها، لا يتيح له القيام بعملية اجتياح واسعة النطاق لقطاع غزة، بل جاء مرتبطاً بشروط محددة تتلخص في:
- السماح للجيش بالعودة لتصفية القيادات العسكرية الميدانية، وكذلك القيادات السياسية من حركتي حماس والجهاد الداعمة والمؤيدة لعمليات المقاومة، خاصة لعمليات إطلاق الصواريخ والقذائف،
- تشديد الحصار العسكري على مناطق القطاع، ووضع الدبابات والمدافع على حدوده، والعودة لسياسة إطلاق القذائف داخله وبصورة مكثفة،
- اعتقال كل من يمكن من عناصر المقاومة في مناطق الضفة الغربية، وتصفية كل من يؤيد المقاومة، لمنع الفصائل من تنفيذ تهديداتها بالقيام بعمليات "استشهادية" داخل الـ48،
- تكثيف النشاط الأمني الاستخباري لمتابعة نشاطات قادة المقاومة في الداخل والخارج على حد سواء، والسماح بتصفية أي قائد منهم إذا توفرت الفرصة لذلك.
وهكذا، تأتي الذكرى السنوية السابعة لانطلاق انتفاضة الأقصى، ومرور عامين على الانسحاب الإسرائيلي من غزة، في ظل التطور الذي شهدته المقاومة بين مرحلة وأخرى، بصورة دلت على عقلية محترفة، أشرفت عليها قيادة سياسية حكيمة، اعتقدت أن الصراع مع المحتل الإسرائيلي هو صراع إرادات في مستواه الأول، وأنه يدير لعبة قاسية أسماها "عض الأصابع"، كانت نتيجتها واضحة، ميدانية وليست نظرية، تمثلت بإعلانه بأعلى صوته وجعا وألما من مقاومة ضارية، سجلت أول تراجع إسرائيلي عن أول أرض فلسطينية بفعل المقاومة.