تركيا ما زالت بنابلس

المكان الذي يقف فيه ياسر طشطوش على شرفة داره في حارة باب الساحة في نابلس القديمة، وقف ذات يوم ممثل الإمبراطورية العثمانية حامد شاكر فضلو قبل نحو مئة عام متوعداً بعض السكان بالعقاب والسجن.

لكن طشطوش الذي حل محل فضلو في دار تشهد على واحدة من أهم حقب المدينة وتمتلكها عائلة من نابلس، لا ينظر إلى المارة الذين يسيرون أسفل شرفته في أزقة البلدة القديمة تلك النظرات القاسية التي تميز بها القائم مقام فضلو الذي عينته الحكومة العثمانية بعد أن حدت من نفوذ الأسر المحلية المتنفذة التي حكمت المنطقة.

في نابلس ثمة مبانٍ تاريخية قديمة استخدمت فيما مضى من قبل الأنظمة الخارجية التي احتلت فلسطين، لكنها الآن تحولت إلى أمكنة للسكن ومحلات تجارية مثل البنايات في حارة باب الساحة.

'ربما كان هذا فضلو مكروهاً، غالبا لأنه رمز لسلطة بلد آخر حكم فلسطين' قال طشطوش الذي يلزم الوصول إلى حيث يسكن صعود أربع وثلاثين درجة مرصوفة بحجارة قديمة من عمر الدار التي قسم الطابق الثاني منها إلى عدة شقق سكنية تسكنها عائلات من المدينة، واستخدمت قبل ذلك فندقا صغيراً قبل أن يستخدمها الإنجليز مقرا مؤقتا لهم.

واتصفت سيرة فضلو بالقمع والقسوة كما يؤرخ لذلك الباحث في التاريخ النابلسي الحديث عبد الله كلبونة.

ونابلس القديمة مدينة مميزة على مستوى العالم، وقطعها من أولها إلى آخرها مرورا بالطرقات الضيقة المسقوفة التي يمكن الوصول إليها عبر درجات تصعد وتهبط يعني المرور على تاريخها المختلف.

إنها كتلة من المباني التي تعلوها قباب مختلفة الأحجام، تتوسطها أسواق عتيقة يتداول فيها التجار مختلف أصناف المهن مثل طشطوش الذي حول شرفة ممثل تركيا في منزله إلى معمل خياطة.

'هنا كان يعمل ممثل تركيا لحكم البلد، وأنا أخيط الملابس في ذات المكان، ولما كان فضلو يسكن هنا بالتأكيد كان للدار وضع خاص' قال الرجل وقد ظهر على وجهه طيف ابتسامة تشي بسخرية من تغير أحوال الدول والأشخاص.

وشقة طشطوش تتألف من أربعة غرف إضافة إلى الشرفة التي تطل على الساحة التي أقام فيها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني برج الساعة الشهير.

وفي الدار التي تتكون من واجهات عريضة تشير إلى نمط البناء التاريخي نوافذ كبيرة تعلوها أقواس مرتفعة كانت تتيح للقائم مقام النظر في اتجاهات مختلفة مثلما تتيح الآن لسكانها مشاهدة جزء من البلدة القديمة.

ورغم أنه اجري على مدار السنوات الماضية بعض التعديلات في داخل الغرف إلا أن الطابع المعماري ما زال يرمز إلى العهد العثماني، لذلك باتت دار طشطوش قبلة لطلبة الجامعات والباحثين الذي يرغبون في الإطلاع على تاريخ الإمبراطورية العظمى مباشرة، وبعيداً عن كتب التاريخ من خلال تلمس حكايات الدور التي تأثرت في اجتياح عام 2002 وأصاب بعض أجزائها الخراب بسبب القذائف التي أطلقها الجيش الاسرائيلي آنذاك.

بالنسبة لطشطوش، البلدة القديمة جميلة لكنه عندما يتحدث عن تاريخ رموز الدولة العثمانية التي حكمت الوطن العربي عدة قرون فإنه ينظر الى هذا التاريخ من زاوية مختلفة.

فهو يروي ذات الحكاية التي يرددها جاره فؤاد حلاوة(72عاما) الذي يرى في الحكم التركي لنابلس علامة لانتشار الفقر والجهل والخوف والحكم القاسي بداية القرن الماضي وكيف كانت المجاعة تضرب في نابلس ومحيطها بقسوة.

يتذكر الرجل عندما كان طفلا في الرابعة من عمره وجاء أبوه وعمه ليعمرا بعض غرف السراي الحكومي التركي، وشرعا في قلع الأوتاد التي غرسها أفراد الجيش العثماني في إسطبل مجاور لدار طشطوش لربط خيولهم إليها.

'كان الإسطبل هناك وكان السجن يجاوره' قال حلاوة الذي لا يتوقف عن الحديث عن تاريخ نابلس الحديث، مشيرا بساعده الذي مده على استقامته إلى ممر بين دار طشطوش ومبانٍ أخرى تابعة للسراي الحكومي يحتاج الوصول إليها المرور عبر بوابة ضخمة فوقها قوس حجري كبير تحته ورش صناعة محلية استخدمت سابقاً سجناً تركياً.

وفي نابلس القديمة تدور حكايات كثيرة عن الأحداث التي حصلت نهاية الحكم التركي للمنطقة، لكن طشطوش لا تهمه كل الحكايات التي ترددها حلاوة دائماً.

فالرجل الذي يسكن في ممثلية تلك الإمبراطورية ووجد في داره عندما سكنها قطع حديدية دائرية معلقة بسقوف الغرف، ويعتقد أنها تستخدم لشبح المساجين حكاية كافية لتروي عن أحد الأساليب القاسية المتبعة آنذاك في انتزاع الاعترافات.

'هناك قصص كثيرة مرتبطة بهذا السراي وبهذه الدور العتقية يذكرها النابلسيون الذي يسكنون مركز البلدة القديمة، وهناك حكايات لا يمكن البوح بها' قال الباحث كلبونة.

يسلمو

يسلمو