ندوة
(القدس مفتاح السلام والحرية)
ندوة فكرية
بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد القائد الخالد
ياسر عرفاتمن 12-14/11/2005
قاعة سليم افندي- البيرة
اليوم الاول
السبت 12/11/2005
الافتتاح والمحور الأول: (ياسر عرفات والقدس)
من الساعة 10-13
1.
ياسر عرفات الميلاد والمسيرة على طريق القدس
عزام أبو السعود
2.
ياسر عرفات والعهدة العمرية
الارشمندريت عطا الله حنا
3.
ياسر عرفات وسجاياه الانسانية
يحيى يخلف
4.
ياسر عرفات والقدس
الاخ احمد قريع (ابو العلاء)
بسم الله الرحمن الرحيم
الورقة الاولى
ياسر عرفات : الميلاد والمسيرة على طريق القدس
عزام توفيق أبو السعود
في هذا اليوم ، الذي نقف فيه لنؤدي واجب الوفاء ، لرجل قاد هذه الأمة ، ورحل وهو يكافح من أجلها ، وترك بصماته على تاريخها .. وفي مجال استعراض حياة هذا القائد المناضل ، فلا بد أن نبدأ من البداية ، المولد .. والطفولة .. وبداية الشباب ... وهي مرحلة هامة من حياة أي انسان ، فكيف بها مع هذا الإنسان العظيم ، الذي نستعرض اليوم سيرته ، أجل .. لقد كان للمولد والطفولة ولأحداثها وذكرياتها ، آثارا واضحة في تكوين شخصية الراحل ياسر عرفات ، وحقلا خصبا لنمو الاتجاهات الوطنية والدينية ، وتمهيدا لبروز نزعة القيادة والزعامة في تلك الشخصية .
في وسط أحداث ثورة البراق عام 1929 ، وفي الزاوية الفخرية ، زاوية آل أبو السعود ، وفي تلك الغرفة الواسعة ، ذات القبة الكبيرة ، والملاصقة للحرم القدسي الشريف من الجهة الجنوبية الغربية ، والمطلة نافذتيها الشرقيتين على المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة ، والمطلة نافذتيها الشماليتين على حائط البراق ، كان مولد هذا الطفل ، الذي سمته أمه " ياسر " وفاء لاتفاق مع ابنة عمها على تسمية طفليهما بهذا الاسم .
كثيرة هي التقارير التي بثتها الإذاعات وشبكات التلفاز عن حياة فقيد الأمة ياسر عرفات ، وفي تأريخهم المبكر لولادة عرفات ، هناك أخطاء كثيرة ، او نوع من اللبس والغموض ، حول مكان ولادته . لقد كانت والدتي ، ابنة عم المرحومة زهوة أبو السعود ، وكانت الخالة " أم محمد الإمام " ابنة عمة الراحل ياسر عرفات ، تحدثانا في ليالي الشتاء الباردة بعض القصص العائلية ، وأود هنا أن أذكر بعضا من " حواديت " الشتاء ، فبالرغم من أن هذه القصص هي قصص عائلية خاصة ، إلا أنها توضح كثيرا من التاريخ المبكر لهذا الرجل :
كانت الصديقتين الحميمتين والجارتين من بنات العم ، زهوة وهيبة ، وكلاهما حامل وتسكنان في الزاوية الفخرية ، زاوية آل أبو السعود في الجهة الجنوبية الغربية من الحرم القدسي الشريف ، قد تعاهدن إذا رزقهن الله بصبي أن يسميانه ياسر ، وتتطابق أمنياتهما فترزقان ، وخلال أسبوع واحد بصبيين ، هما ياسر أبو السعود وياسر عرفات ، أما صديقتهما الثالثة والدتي ، فقد أنجبت شقيقتي فاطمة بعدهما بعشرين يوما ، في نفس العام الذي تفجرت فيه ثورة البراق ، عام 1929 ، تلك الثورة التي كان خطيبها المفوه هو الشيخ حسن أبو السعود ، مفتي الشافعية في فلسطين ، ومفتش المحاكم الشرعية ، وأحد مؤسسي مدرسة روضة المعارف بالقدس ، وعضو الهيئة العربية العليا، وصديق الحاج أمين الحسيني الحميم .
كانت زهوة أبو السعود ، " أم جمال " ، قد حضرت إلى القدس من القاهرة لتضع مولودها بين أهلها ، تمشيا مع العادة التي كانت سائدة في تلك الأيام ، ذلك أنها كانت تشعر بالغربة في مصر ، منذ انتقلت للعيش هناك مع زوجها " عبد الرؤوف عرفات القدوة ، قبل عدة سنوات ، وبعد أن باع زوجها دكان بيع الحبوب في خان الزيت بالبلدة القديمة من القدس ، وذهب إلى القاهرة لمتابعة حقوق إرثية آلت إليه من ريع " وقف الدمرداش " أحد أكبر أوقاف مصر والذي تشمل اراضيه معظم منطقة العباسية في القاهرة ، حيث أصبح متوليا على هذا الوقف ، بعد أن بدأ يعمل في تجارة القطن في مصر .
كانت زهوة " أم جمال " تأتي كل صيف إلى القدس وتقيم مع أطفالها في بيت شقيقها سليم في الزاوية الفخرية ( زاوية ابو السعود) _ التي تعود إلى نهاية عصر الأيوبيين وبداية العصر المملوكي_ وقد أنجبت في الزاوية كلا من ياسر وفتحي ، وكانت قد سكنت بعد زواجها ، وقبل سفر عبد الرؤوف القدوة إلى مصر، في منطقة الميلوية في حارة السعدية ، وفي الواد ، وهما من أحياء البلدة القديمة من القدس حيث أنجبت في هذين المنزليين كل من جمال وانعام ومصطفى ويسرى وخديجة ، وبعد رحيل الاسرة الى القاهرة استمرت زهوة في قضاء صيف كل عام في القدس ، هي وأطفالها وبينهم ياسر عرفات ، في زاوية أبو السعود ، وفي بيت شقيقها سليم ، يعيشون إلى جوار المسجد الأقصى ، يلهون في ساحاته ، وأروقته و " لواوينه " ومصاطبه .
عام 1933 ، كما يبدو كان عاما سيئا لتجارة والده ، أما عام 34 فقد توفيت به زهوة في القاهرة بعد عدة أشهر من عودتها الى القاهرة من القدس بعد ولادتها لابنها فتحي ، وذهب سليم ( شقيق زهوة ) وراجي أبو السعود ( ابن أخت عبد الرؤوف عرفات القدوة ) إلى القاهرة لحضور العزاء ، وعادا من هناك الى القدس ومعهما الطفلين ياسر وفتحي ، ليرعاهما خالهما " سليم " ، وابن عمتهما " راجي " الذين لم يكن الله قد رزقهما أطفالا ، بينما بقي جمال ومصطفى وانعام ويسرى وخديجة في القاهرة مع والدهم .
عاش ياسر وفتحي أكثر من سنتين في رعاية خالهما سليم ، كانا يلعبان مع أبناء العائلة ، وكان ملعبهم ساحات الحرم الشريف ، تربيا في ظل عائلة كانت منشغلة بالسياسة في تلك الأيام ، فقد برز الدور السياسي للشيخ حسن أبو السعود ، مفجر ثورة البراق ، وأحد المقربين إلى المفتي الحاج أمين الحسيني ، كما برز دور الدكتور حسام أبو السعود كأحد أقطاب المعارضة التي تزعمها راغب النشاشيبي ، وكانت أحاديث وخلافات " المجلسيين والمعارضة " أو "الطربوش والحطة والعقال "، هي محور ما يسمعه الأطفال فيرسخ في ذهنهم ، حتى بدأ إضراب عام 1936 ، ذلك الإضراب ، أو ثورة 36 كما يسميه البعض أضاف إلى " قاموس الأطفال " تعابير جديدة وأشياء كثيرة وذكريات أكثر . لكن هذا الإضراب ، أدى إلى توقف كافة الأعمال ، وانقطاع عمل ودخل الكثير من الناس ، وبينهم خال الأطفال ، مما حدا بعبد الرؤوف القدوة إلى استعادة طفليه من القدس ، بسبب الإضراب أولا ، ثم بسبب قرب فتح المدارس ، إذ كان سن ياسر عرفات قد وصل إلى سبع سنوات وهو سن الالتحاق بالصف الأول الابتدائي ، وحيث أن دخول المدرسة يستدعي شهادة ميلاد للطفل ، ولصعوبة إحضار شهادة ميلاد من القدس بسبب الإضراب ، فقد استصدر " أبو جمال " شهادة ميلاد لياسر من القاهرة ، وهذه نقطة هامة أردت توضيحها ، وهي سبب استصدار شهادة ولادة من القاهرة ، فدخول المدرسة لياسر عرفات كان أيسر ، بوجود شهادة ميلاد صادرة من القاهرة .
يذكر أبناء جيل عرفات ، أن عرفات قضى الفترة من 1942-1944 في الزاوية ، وأنهم يذكرون الخيمة التي نصبها قرب باب الزاوية وهو ولد ابن ثلاثة عشر عاما ، كان محور اللعب داخل الخيمة ، هو لعبة العسكر ، وضع الخطط العسكرية ، والهجوم على مواقع العدو ، كانت خططهم هذه تحدد حسب مواقع في ساحات الأقصى ، كالمهد أو توما توما ، أو كبئر أو سبيل أو عمود رخامي أو قبة في الساحة . ، كان يلعب مع الصبية لكنه يجب أن يكون دوما هو القائد في اللعب ، بالطبع كانت الفترة هي فترة الحرب العالمية الثانية ، والأطفال يسمعون عن الحرب ، ويترجمون ذلك في ألعابهم . كانوا يسمعون عن ثورة 39 ، فتستفز تلك الأحداث حسهم الوطني ، وتنمي فيهم الحماس ، وكان الأولاد يحبون ياسر ، لأنه يتنطط كالعفريت ويتكلم باللهجة المصرية المحببة الى النفس والقلب .
كان قلب خاله سليم قد تعلق بياسر وفتحي كثيرا ، كما تعلقا به أيضا ، فخاله لم يرزق بالخلف ، لذلك عاش الطفلان في ظل الخال وزوجته المحرومين من الأطفال والمتلهفين عليهم ، فنال الطفلان من الرعاية والحب الشيء الكثير ، لذلك بقيا على عهد الوفاء والحنين إلى خالهما ، كما يظهر في رسائل ياسر عرفات إلى خاله. وهذه مقتطفات من رسالة وجدتها ضمن عدة رسائل شخصية قديمة بين أوراق المرحوم سليم أبو السعود ، إحداها من ياسر عرفات من القاهرة وموجهة إلى خاله سليم في القدس ومؤرخة في 2/2/ 1947، حيث استوقفتني هذه الفقرة التي كتب فيها :
" ولكني يا خالي بعد أن طالت المدة وازدادت نيران الشوق ، لم استطع صبرا ولم أرى بدا من أن أتغلب على تلك النفس المتمردة الثائرة حتى أستطيع أن أسطر إليك تلك الكلمات القليلة التي أعتقد أنها خير من كلمات مطولة وتحرير كبير ، فإن كثرة الكلام وطول الخطاب ليذكرني بتلك الأيام السعيدة التي قضيتها في كنفك تراعني وتحدب علي ، وان هذا لمما يزيد في عذاب نفسي وشقاء روحي عندما أعلم أنني عندك ببعيد " .
الكلمات السابقة هي كلمات ياسر عرفات ، حين كان ابن 18 عاما ، أرسلها من القاهرة الى القدس ، لكن .. هل انقطع عرفات فعلا عن فلسطين وعن تتبع أخبار فلسطين في تلك الفترة ؟
كان الشيخ حسن أبو لسعود ، يتردد كثيرا على القاهرة مبعوثا من القيادة الفلسطينية ، ضمن عادة المفتي في تلك الأيام في التشاور مع الزعماء المصريين ، وكان عبد الرؤوف القدوة يذهب ليرى الشيخ كلما سمع بقدومه الى مصر ، وكان يأخذ معه أولاده ، وعندما نفى الإنجليز الشيخ إلى مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعد العودة من المنفى في جزيرة سيشل ، كان أبناء القدس والأقارب ، وبينهم ياسر عرفات يلتقون على مائدة الشيخ حسن أيام الجمع ، وكان صالون الشيخ بمصر الجديدة ، يستقبل دوما زعماء مصر وزعماء العرب ، وكان ياسر قد جدد صداقته لأبناء الشيخ ، رفاق الطفولة واللعب في ساحات الحرم بالقدس ، أصبحوا رفاق الصبا في القاهرة ، فأصبح كثير التردد على بيتهم ، وكان ياسر عرفات يتسابق معهم لتقديم القهوة لضيوف الشيخ ، علهم يسمعون بعضا من كلام الزعماء ، ليتباهوا بذلك أمام أصدقائهم . فلا عجب اذن أن تخلق مثل تلك البيئة ، شابا مندفعا نحو النضال ، وتواقا ليأخذ فرصته لصد الأخطار المحدقة بالوطن خاصة وأنه يعشق القدس ويحن إليها .
في تلك السنوات ( 1945-1948 )، كان هم القيادة الفلسطينية في المنفى ، تأمين السلاح للمجاهدين في فلسطين ، وكانت إحدى الطرق لذلك ، شراء مخلفات معركة العلمين من الأسلحة ، ورغم أن ياسر عرفات ، كان فتى يافعا آنذاك ، إلا أنه كان يصر على الذهاب إلى صحراء مصر الغربية ، وكان يسير في حقول الألغام ، يتبع الدليل البدوي ، الذي يقودهم إلى بقايا السلاح المتروك هناك ، وقد رافق ياسر عرفات الشيخ موسى ابو السعود وحيدر الحسيني في زيارات لبدو الصحراء الغربية بمصر لشراء ما أخفوه من اسلحة ، وبعد ذلك تأمين وصول هذا السلاح الى فلسطين عبر غزة ، وقد حدثني في آخر مرة قابلته بها عن تلك الأيام ، وعن دبابة عرضت عليهم لشرائها بمبلغ خمسين جنيها مصريا ، كانت موجودة لدى أحد تجار الخردة في وكالة البلح في مصر ، وأن المشكلة كانت في عدم شرائها ، هي كيفية نقلها وتهريبها إلى فلسطين . نعم هذا ما قاله لنا ياسر عرفات قبل شهرين من وفاته ، حين ذهبنا أبناء العائلة لنقدم الشكر له لمواساته وتقبله العزاء بابني عمنا موسى وحاتم وأحدهما هو موسى رفيقه في صحراء العلمين وابن الشيخ حسن ، الذي كان ياسر عرفات يعتبره أباه الروحي .
لا أريد أن أتحدث عن دور ياسر عرفات في حرب عام 1948 ، ولا عن رابطة طلبة فلسطين في أوائل الخمسينات ، ولا عن دوره كمتطوع أثناء العدوان الثلاثي على مصر ، فتلك أمور موثقة ومعروفة ، لكنني أود أن أذكر ، أن أقارب ياسر عرفات ، أرادوا إبعاده عن النشاط السياسي والنضالي ، لذلك فقد سعى ابن عمته " راجي أبو السعود " ، الذي كان يعمل في دائرة الأشغال الكويتية آنذاك ، لتأمين عمل لياسر عرفات كمهندس في تلك الدائرة ، فلعل العمل والمال ينسيه السياسة ، فذهب إلى الكويت ، وكان يقضي الكثير من وقته في بيت قريبه هذا، فذلك أفضل من بيت " العزّاب " الذي كانت إمارة الكويت في ذلك الحين تؤمنه للمهندسين غير المتزوجين الذين يعملون معها ، لذلك رأينا الوفاء كل الوفاء من ياسر عرفات ، حين عاد إلى الوطن ، والى أريحا بالذات ، حيث اعتاد على زيارة ورعاية تلك العجوز التي جاوزت التسعين من عمرها ، ثروت " أم سليمان " زوجة راجي ، والتي توفيت بعده بأيام متأثرة بخبر وفاته.
في نهاية عام 1964 ، زارنا في بيتنا بالقدس ، رجل أصلع ، كان ينادي والدي بلقب " خالي " ، وعرفني والدي عليه بأن اسمه ياسر عرفات ، لم أكن أعرفه قبل ذلك ، ولكن ، وفي اليوم التالي ، طلب مني والدي أن اذهب معه إلى بيتنا في أريحا لأن عنده ضيوف على الغداء ، بالطبع اصطحبني والدي لخدمة ضيوفه ، بعد أن أخذ علي العهود والمواثيق بأن أكتم أمر ما أسمع أو أرى ، وفوجئت هناك بأن ضيف الأمس يقود الحديث ، وان الضيوف هم عدد من شخصيات القدس ، ولعلي الآن استطيع أن أقول ان هذه الشخصيات هي راسم الخالدي ، والدكتور داود الحسيني ، واسحق الدزدار ، وعبد الرحمن الكالوتي ، وياسر أبو السعود ، ووالدي توفيق أبو السعود ، رحمهم الله جميعا ، وكان من رتب لهذا اللقاء هو عمر الخطيب ( أبو شامخ ) ، وقد اعتقل جميعهم بعد ذلك اللقاء ببضعة أشهر .
بعد حرب عام 1967 بشهرين ، زارنا هذا الرجل في بيتنا مرة أخرى ، وكان يرافقه المرحوم فهمي الحموري ، وطلب إلي والدي أن أقدم القهوة وأغلق الباب خلفي ، لم أعرف ما دار من حديث ، لكني عرفت الرجل من لهجته المصرية ، وعرفت فعلا من يكون ، حين رأيته بعد ذلك بعدة أشهر يتحدث في ندوة باتحاد طلبة فلسطين في القاهرة ، وقدموه لنا بأنه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الجديد . وكانت المفاجأة لي آنذاك ، أنه عرفني وهو يغادر القاعة بعد انتهاء حديثه الينا ، وسألني : " كيف الأهل بالقدس ؟ اذا عندك اتصال بيهم ، قول لهم مش حنطول عليهم ، حنحررهم "
رجل أحب القدس ، عشق القدس ، وتمنى أن يدفن في ترابها ، كان يفتخر دوما بأن أخواله من القدس ، وانه ولد وعاش بعضا من طفولته وصباه بها ، عشق حجارتها وقبابها ، عشق كعكها والزيت والزعتر ، وأحب " القزحة " على الإفطار ، كما أحبها واعتاد على أكلها صباحا خاله المقدسي ، عشق عبق التاريخ في القدس ، عشق رائحة البخور تهفو من كنائسها ، وصوت المؤذن ينطلق من مآذنها ، لم يسمح له بدخولها بعد عودته ، إلا في تلك الليلة الماطرة العاصفة ، حين كان في بيت لحم ، ويريد السفر إلى الأردن ، ولم تكن الأحوال الجوية تسمح لطائرته بالطيران ، فذهب عن طريق الجسر مرورا بالقدس ، فاستنشق ريحها ، وهاجت في نفسه ذكريات وذكريات ، وقد حدثني أحد الأصدقاء بأنه حمل عنقودا صغيرا من عناقيد العنب ، كان قد قطعه من دالية عنب وحيدة مزروعة فيما تبقى من أرض الزاوية الفخرية بالقدس وأخذ قطف العنب هذا الى ياسر عرفات ، الذي بدت البهجة والسعادة على محياه وهو يأكل شيئا من " ريحة القدس والزاوية " ،التي هدمها الاسرائيليون عامي 1967 و1968 ، بحجة انها جزء من الحائط الغربي لهيكلهم المزعوم ، وان حفرياتهم اسفلها بعد ذلك لم توصلهم الى شيء من أثر الهيكل . ولعل البعض منكم يعرف أن ياسر عرفات كان يؤمن بنظرية أن الهيكل لم يبن يوما ما في القدس ، وأنه كان مع نظرية أن موسى عبر ببني اسرائيل البحر الأحمر من جنوبه ، وأن اليهود عاشوا في جنوب الجزيرة العربية وبنوا هيكلهم هناك .
ولعل الجميع يعرفون ، أن ياسر عرفات كان يتباهى دوما ب " كوشان الطابو" الذي يثبت حصته وحصة اشقائه وشقيقاته من حقهم الارثي عن والدتهم في قطعة أرض براس العامود بالقدس .
تلك صفحات منسية من تاريخ هذا الرجل ، الذي شهر أعداؤه به وبنسبه ، والذي فارقنا وهو يحمل الراية ، يتمنى العودة إلى القدس ، مرتع طفولته ، والتي أحبها وحلم بها وقدم لها الكثير ، وأوصى أن يدفن بها ، والدعاء إلى الله أن يرحم أبا عمار ، وأن يحمي هذا الوطن المعذب ، والذي كتب له ولأهله أن يكونوا أهل الرباط إلى يوم الساعة .
رحم الله أبا عمار ، سنفتقده ، وستفتقده القدس التي لم يبخل عليها أبدا ، وعزائنا فيه أمل .. بان نواصل مسيرته ، أن نواصل حبنا ورعايتنا للقدس ، إنا لله وإنا إليه راجعون .