تأخر حزني عليه قليلاً، لأني كغيري توقَّعْتُ من سيِّد النجاة أَن يعود إلينا، هذه المرة أيضاً، ببداية جديدة. لكن الزمن الجديد أَقوي من شاعرية
الأسطورة ومن سحر العنقاء. وللتأبين طقس دائم يبدأ باستعمال فعل الماضي الناقص: كان... كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا. وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلي جمرة المقاومة، إلي فكرة الدولة، إلي واقع تأسيسها المتعثِّر. لكن للأبطال التراجيديين قدراً يشاكسهم، يتربّص بخطوتهم الأخيرة نحو باب الوصول، ليحرمهم من الاحتفال بالنهاية السعيدة لعمر من الشقاء والتضحية. لأن الزارع في الحقل الوعر لا يكون دائماً هو الحاصد.
يُعَزِّينا في هذا المقام أن أفعال هذا القائد الخالد، الذي بلغ حدّ التماهي التام بين الشخصيّ والعام، قد أوصلت الرحلة الفلسطينية الدامية إلي أشد ساعات الليل حلكة، وهي الساعة التي تسبق الفجر، فجر الاستقلال المُرّ، مهما تلكأ هذا الفجر، ومهما أُقيمت أمامه أسوار الظلاميين العالية. ويُعَزِّينا أيضاً أن بطل هذه الرحلة الطويلة الذي وُلد علي هذه الأرض الشرسة، قد عاد إليها ليضع حجر الأساس للمستقبل، وليجد فيها راحته الأبدية، لتغتني أرض المزارات بمزار جديد.
الرموز أيضاً تتخاصم، كما يتخاصم التاريخ مع الخرافة، والواقع مع الأسطورة. لذلك كان ياسر عرفات، الواقعيُّ إلي أقصي الحدود، في حاجة إلي تطعيم خطابه بقليل من البُعْد الغَيْبيّ، لأن الآخرين أضافوا إلي الصراع علي الحاضر صراعاً علي الماضي، لمحو الحدود بين ما هو تاريخي وما هو خرافي، ولتجريد الفلسطيني من شرعية وجوده الوطني علي هذه الأرض. لكن البحث عن الحاضر هو شغل الناس وشاغلهم، وهو عَمَلُ القائد المتطلِّع إلي الغد.
وكان ياسر عرفات الناظرُ إلي الغد والعميقُ الإيمان بالله وأنبيائه، عميقَ الإيمان أيضاً بالتعددية الثقافية والدينية التي تمنح هذه البلاد خُصُوصِّيتها، التعددية المضادة للمفهوم الحصري الإسرائيلي. وكان في بحثه الديناميكي عن الغد في الحاضر ببحث عن نقاط الالتقاء، ويشكِّل سداً أمام الأصوليات. لم يكن تَديُّنهُ حائلاً دون علمانيته. ولم تكن علمانيته عبئاً علي تدينه. فالدين للّه والوطن للجميع.
مَنْ منّا لم يقف حائراً أمام قُوّة إيمانه بالعودة القريبة. كان بصره كبصيرته يخترق الضباب الأسود. كنت شاهداً عليه وهو يستعد لركوب البحر من بيروت إلي ما لا نعرف، إلي مجهول بعيد. سأله أوري أفنيري: إلي أين أنت ذاهب؟ فردَّ علي الفور: إلي فلسطين. لم يصدِّق أحد منا هذا الجواب الهارب من الشعر. فلم تَبْدُ فلسطين، من قبل، بعيدة كما تبدو من هذا البحر.
كان خارجاً من حصار شارون. نجا من ملاحقة الطائرات ومن عدسة القنَّاص. ومضي في رحلة أوديسية، محملاً بنهاية مرحلة، ليقول: أنا ذاهب إلي فلسطين.
أعاد ترميم الرحلة والحكاية. نجا من غارة علي غرفة النوم في تونس. ونجا مرة أخري من سقوط طائرته في الصحراء الليبية. ونجا من آثار حرب الخليج الأولي، ونجا من صورة الإرهابي، واستبدلها بصورة الحائز علي جائزة نوبل للسلام. وحقق نبوءته التي سكنته طيلة العمر: عاد إلي أرض ميعاده، عاد إلي فلسطين.
لو كانت تلك هي النهاية، لانقلبت التراجيديا الإغريقية علي شروطها. لكن شارون العائد من ضواحي بيروت نادماً علي ما لم يفعل، سيلاحق خصمه الكبير في رام الله، سيحاصره ثلاث سنوات، سيحول مقره أطلالاً، وسيسمّم حياته بالحصار والعزلة، وسيحرمه من الموت كما يشتهي: شهيداً في مقره. فإن شارون لا يحارب الشخص ونصَّه الوطني فحسب، بل يحارب إشعاع الرمز في الزمن، ويحارب أثر الأسطورة في ذاكرة الجماعة.
لكن ياسر عرفات، الذي يعي بعمق ما أعدَّ لنفسه من مكانة في تاريخ العالم المعاصر، أشرف بنفسه علي توفير وَجَعٍ ضروري للفصل الأخير من أسطورته الحية. فطار إلي المنفي ليلقي عليه تحية وداع، أسلم معها روحه، فالبطل التراجيدي لا يموت إلاّ في المنفي. وفي طريق عودته المجازية، عرَّج ذو الهوي المصري علي مصر ليسدِّد لها دَيْنَها العاطفي. وعند عودته النهائية، التي لا منفي بعدها، ألقي النظرة الطويلة الأخيرة علي الساحل الفلسطيني المغروز كسيفٍ في خاصرة البحر... ونام. تدثّر الجسدُ الخفيفُ بأرض الحلم الثقيل، ونام... لا لينهض كصنم أو أيقونة، بل فكرةً حية تحرضنا علي عبادة الوطن والحرية، وعلي الإصرار علي ولادة الفجر بأيدٍ شجاعة وذكية.
إن صناعةً للوهم تزدهر الآن في مَكان آخر. فعلي مستويات عالمية وإقليمية يجري الاحتفال المبكر برؤية فجر كاذب، يبزغ من رحيل عرفات الموصوف بأنه كان العقبة الرئيسة أمام تقدم عملية السلام. ليكن، فما هي الرؤية الجديدة؟ سيُمْتَحن القانون الدولي والمرجعية الدولية ما دامت العقبة قد زالت، فهل سيزول الاحتلال؟ لن ينتظر العالم طويلاً ليدرك أن لاءات شارون الأربع، التي تبنَّاها الرئيس الأمريكي، لا تشكل العقبة الكبري أمام السلام فحسب، بل تجعل السلام مستحيلاً، لأنها تجعل امكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة أمراً مستحيلاً، فلا يستوي السلام مع استمرار الاحتلال والسيطرة علي مصير الشعب الفلسطيني، كما لا يستوي المؤقت مع الأبدي. فمن، بعد عرفات، سيرضي بشبه دولة مؤقتة إلي الأبد؟
سنفتقده دائماً، في الأزمات وفي المفاوضات، وفي جميع نواحي حياتنا، لأنه جزء عضوي منها، ولأنه فريد وبلا مدرسة. فالعرفاتية لا تقوم إلاّ علي صاحبها، لأنها موهبة خاصة، حيوية وألفة ونشاط خارق، ومزايا شخصية لا تُورث، وفوضي ونظام معاً، وعلاقات حميمة مع الناس جعلت الكاريزما العرفاتية ما هي عليه. بعد عرفات لن نعثر علي عرفاتية جديدة. لقد أَغلق الباب علي مرحلة كاملة من مراحل حياتنا الداخلية. لكن الباب لن ينفتح، بغيابه، علي قبول الشروط الإسرائيلية التعجيزية لتسوية لم تبق للفلسطينيين ما يتنازلون عنه. هنا، تواصل العرفاتية فعلها. وهنا، لا يكون عرفات فرداً، بل تعبيراً عن روح شعب حيّ.
في كل واحد منا ذكري شخصية منه، وعناق وقبلة. وفي كل واحد منا وعيُ هويةٍ لا تعاني من قلق التعريف: لن نكون فلسطينيين إلاّ إذا كنا عرباً. ولن نكون عرباً إلا إذا كنا فلسطينيين. فهذه الهوية مستعصية علي المراجعة والتفاوض، سواء قام الشرق الأوسط الجديد أو لم يقم. ولن نكون ما نريد أن نكون إلاّ إذا عرفنا كيف ننهي عملية الخروج من تاريخنا ومن التاريخ الإنساني، وكيف نعود إليهما، بكل ما أوتينا من طاقات وتجارب ومواهب.
وتلك كانت محاولة ياسر عرفات الدؤوب: الانتقال من الدور الذي تحتلّه ضحية التاريخ إلي المشاركة في صناعة التاريخ. فله المجد والخلود.
هذه الكلمة القاها درويش يوم امس (21-12-2004) في رام الله
في حفل تابين الرئس الفلسطيني الرحيل ياسر عرفات