يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة ، بنتقل إحداهما إلى الأخرى قفزاً وركضاً ووثباً ، في خفة وسرعة وانطلاق ، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيستقر عندها اللفظ والموضوع والايقاع !كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف !
وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة ، القادحة للشرر بحوافرها ، المغيرة مع الصباح وهو الغبار ، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخده على غرة ، وتثير في صفوفه الذعر والفرار !
يليه مشهد في النفس الكنود الجحود والأثرة والشح الشديد !
ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور !
وفي الختام ينتهى النقع المثار ، وينتهي الكنود والشح والشديد والجحود ! وتنتهي البعثرة والجمع ... إلى نهايتها جميعا.. إلى الله فتستقر هناك : ( أن رببهم يومئذ لخبير ) .
والايقاع الموسقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة ، كما تناسب جو الجحود والكنود ، والأثرة والشح الشديد .. فلما أراد لهذا كله إطار مناسباً ، اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك ، تثيره الخيل العادية في جريها ، الصاخبة بأصواتها ، القادحة بحوافرها ، المغيرة فجاءة مع الصباح ، المثيرة للنقع والغبار ، الداخلة في وسط العدو على غير انتظار ... فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار .
ثم تجيء اللفتة الأخيرة في السورة لعلاج الكنود والجحود والأثرة والشح ، لتحطيم قيد النفس وإطلاقها منه . مع عرض مشهد البعث والحشر في صورة تنمي حب الخير ، وتوقظ من غفلة البطر :
( أفلا يعلم ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ؟ )
وهو مشهد عنيف مثير . بعثرة لما في القبور .. بعثرة بهذا اللفظ العنيف المثير . وتحصيل لأسرار الصدور التي ضمنت بها وخبأتها عن العيون .. تحصيل بهذا اللفظ العنيف القاسي ... فالجو كله عنف وشدة وتعفير !
أفلا يعلم إذا كان هذا ؟ ولا يذكر ماذا يعلم ؟ لأن علمه بهذا وحده يكفي لهز المشاعر . ثم ليدع النفس تبحث عن الجواب ، وترود كل مراد ، وتتصور ما يمكن أن يصاحب هذه الحركات العنيفة من آثار وعواقب !
ويختم هذه الحركات الثائرة باستقرار ينتهي إليه كل شيء ، وكل أمر ، وكل مصير .
( إن ربهم بهم يومئذ لخبير )
فالمرجع إلى ربهم . وإنه لخبير بهم ( يومئذ ) وبأحوالهم وأسرارهم .. والله خبير بهم في كل وقت وفي كل حال . ولكن لهذه الخبرة (يومئذ ) آثار هي التي تثير انتباههم لها في هذا المقام .. إنها خبرة وراءها عاقبة . خبرة وراءها حساب وجزاء . وهذا المعنى الضمني هو الذي يلوح في هذا المقام !
إن السورة مشوار واحد لاهث صاخب ثائر .. حتى ينتهي إلى هذا القرار .. معنى ولفظاً وايقاعاً ، على طريقة القرآن !