مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق ، هناك تناسقاً بين أجزاء السورة ، وتسلسلا في ترتيب الحقائق التي تضمنتها مما يجعل السورة كلها متماسكة .
( أقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم ..علم الإنسان مالم يعلم ) .
إنها السورة الأولى من هذا القرآن ، فهي تبدأ باسم الله ، وتوجه الرسول – صلى الله عليه وسلم – أول ما توجه ، في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأالأعلى ، وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها .
توجهه إلى أن يقرأ باسم الله ( أقرأ باسم ربك ) وتبدأ من صفات الرب التى بها الخلق والبدء : ( الذي خلق ) .
ثم تخصص : خلق الإنسان ومبدأه : ( خلق الإنسان من علق ) ... من تلك النقطة الدموية الجامده العالقه بالرحم . من ذلك المنشأ الصغير الساذج التكوين . فتدل على كرم الخالق فوق ما تدل على قدرته . فمن رفع هذا العلق إلى درجة الإنسان ؟ وإنها لنقله بعيدة بين المنشأ والمصير . ولكن الله قادر وكريم .
وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم .. . تعليم الرب للإنسان ( بالقلم ) لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان . والله يعلم قيمة القلم فيشير إليه في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية .
ثم تبرز مصدر التعليم .. إن مصدره هو الله منه يستمد الإنسان كل ما علم ، وكل ما يعلم وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود ، ومن أسرار هذه الحياة ، ومن أسرار نفسه . فهو من هناك . من ذلك المصدر الواحد ، الذي ليس هناك سواه . وكل أمر . كل حركه . كل خطوه . كا عمل باسم الله ، وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير وإلى الله تتجه ، وإليه تصير .
ولقد كان من مقتضيات تلك الحقيقة : حقيقة أن الله هو الذي خلق . وهوالذي علم . وهو الذي أكرم . أن يعرف الإنسان ويشكر . ولكن الذي حدث كان غير هذا ، وهذا الانحراف هو الذي يتحدث عنه المقطع الثالث للسورة :
( كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغني . إن إلى ربك الرجعي) إن الذي أعطاه فأغناه هو الله . ولكن الإنسان لايشكر حين يعطى فيستغني . وحين تبرز صورة الإنسان الطاغي الذي نسي نشأته وأبطره الغني ، بجيء التعقيب بالتهديد الملفوف : ( إن إلى ربك الرجعي ) ، وهنا تبرز قاعدة أخري من قواعد التصور الإيماني . قاعدة الرجعة إلى الله في كل حركه وفي كل أمر وفي كل نيه ، ليس هناك مرجع سواه . إليه يرجع الصالح والطالح والطائع والعاصي والمحق والمبطل والخير والشرير . والغني والفقير ... وإليه يرجع هذا ( الذي يطغى أن رآه أستغنى ) ألا إلى الله تصير الأمور ... ومنه النشأة وإليه المصير ...
وهكذا تجتمع أطراف التصور الايماني .. الخلق والنشأة . والتكريم والتعليم .. ثم ..الرجعة والمآب لله وحده بلا شريك : ( إن إلى ربك الرجعى ) .
ثم يمضي المقطع الثالث في السورة القصيرة يعرض صورة من صور الطغيان . صورة مستنكرة يعجب منها ويفظع وقوعها في أسلوب قرآني فريد .
( أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى ؟ أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ؟ أرأيت إن كذب وتولى ؟ ألم يعلم بأن الله بري ؟ ) .
(أرأيت ) ؟ للتشنيع والتعجيب والاستنكار . ويجيء التهديد الملفوف ( ألم يعلم بأن الله يرى ؟ ) يرى تكذيبه ونهيه للعبد المؤمن إذا صلى . ثم يجيء التهديد الحاسم الرادع ، ( كلا . لئن لم ينته لنسفعن بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة . فليدع ناديه . سندع الزبانية ).وفي ضوء هذا المصير الهيب تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الاصرار والثبات على إيمانه وطاعته . ( كلا . لاتطعه ، واسجد ، واقترب ) .