هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها .هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله .فلا تضن عليها بشيء ...ولا تحتجز دونها شيء ...لا الأرواح ولا الأموال ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور ..وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية وهي تعيش على الأرض . موازينها هي موازين الله .والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين . كما أنها الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله ، فتخشع لذكره . وترتجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه .
وعلى أساس هذه الحقيقة تدعو السورة الجماعة الإسلامية إلى البذل في سبيل الله ، بذل النفس وبذل المال : ( أمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه )
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة كذلك تدعو الجماعة الإسلامية إلى الخشوع لذكر الله وللحق الذي أنزله الله ليجيء البذل ثمرة لهذا الخشوع المنبعث من الحقيقة الإيمانية الأولي : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق )
وكذلك تضع قيم الدنيا وقيم الآخرة في ميزان الحق ، وتدعو الجماعة الإسلامية لاختيار الكفة الراجحة والسباق إلى القيم الباقية : ( اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد )
وظاهر من سياق السورة - إلى جانب عمومية الدعوة الدائمة إلى تلك الحقيقة - أنها كانت تعالج كذلك حالة واقعة في الجماعة الإسلامية عند نزول هذه السورة في المجتمع المدني في الفترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح مكة . فإلى جانب المهاجرين والأنصار ، الذين ضربوا أروع مثال عرفته البشرية في البذل والتضحيه بأرواحهم وأموالهم ، كانت هناك – في الجماعة الاسلامية – فئة أخرى ليست في هذا المستوى الايماني الخالص الرفيع وبخاصة بعد الفتح عندما دخل الناس في الإسلام أفواجا وكان من بينهم من لم يدركوا بعد حقيقة الايمان الكبيرة ولم يعيشوا بها ولها كما عاشت تلك الفئة السابقة الخالصة المخلصة لله .
كذلك كانت هنالك طائفة أخري طائفة المنافقين ،مختلطة غير متميزة خاصة حين ظهرت غلبة الإسلام واضطر المنافقين إلى التخفي والإنزواء ، مع بقاء قلوبهم غير مخلصة يتربصون الفرص وتجرفهم الفتن . :(يوم يقول المنافقون : انظرونا نقتبس من نوركم )
هذا إلى جانب من بقي في الجزيرة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ( كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) وهي إشارة إلى اليهود خاصة . وكإشارة إلى النصارى قرب نهاية السورة في قوله : (ثم قفينا على آثارهم وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل )
ولما كان مدار السورة على تحقيق حقيقة الإيمان في القلب ، وما ينبثق عن هذه السورة من خشوع وتقوى ، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس على نسق مؤثر حافل بالمؤثرات ذات الإيقاع الآسر للقلب والحس والمشاعر! وفي مطلع السورة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه فيها تعريف به مع الإيحاء الآسر بالخلوص له نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المنفردة ، وسيطرتها المطلق على الوجود ، ورجعة كل شىء إليها في نهاية المطاف مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور ، واتجاه كل إليها بالعبادة والتسبيح : ( سبح لله مافي السماوات والأرض . وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض وهو على كل شىء قدير ) .
ومطلع السورة بإيقاعاته كاف وحده ليهز القلوب هزاً ويوقع فيها الرهبه والخشية والارتعاش والتخلص من الشح بالأنفس والأموال وصورة ضآلة الحياة وقيمها إلى جانب قيم الآخرة . وكذلك لمسة رد القلوب إلى حقيقة القدر المسيطر على الوجود : (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لاتأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم . والله لايحب كل مختال فخور . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) .