هذه السورة المكية تصور جانباً من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية وطريقتهم في مواجهة ححجها وآياتها ، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها واتباعهم للهوى اتباعاً كاملاً في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان . كذلك يصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى . وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة ، ويذكرهم عذابه . ويصور لهم ثوابه ، ويقرر لهم سننه ، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود .
ومن خلال آيات السورة نرى فريقاً من الناس مصراً على الضلالة ، مكابراً في الحق شديد العناد ترسمه الآيات وتواجهه بما يستحقه من التهديد بعذاب الله الأليم العظيم : ( ويل لكل آفاك أثيم ، يسمع آيات الله تتلى عليه ، ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ، فبشره بعذاب أليم ) .
وترى جماعة من الناس ، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التقدير ، لايقيمون وزناً لحقيقة الإيمان الخالصة ولايحسون بفارق بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقاً في ميزان الله بين الفريقين ويصور سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور : (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم ؟ ساء ما يحكمون ) .
ونرى فريقاً من الناس لا يعرف حكماً يرجع إليه إلا هواه ، فهو إلهه الذي يتعبده ، ونرى فريقاً من الناس مصوراً تصويراً فذاً في هذه الآية ، وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه : ( أفرأيت من اتخد إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ؟ فمن يهديه من بعد الله ؟ أفلا تذكرون ؟ )
وترى فريقاً من الناس ينكر أمر الآخرة ، ويشك في قضية البعث والحساب ، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لاسبيل إليه في هذه الأرض . والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل الفائمة الحاضرة على صدق هذه القضية ، وهم عنها معرضون : ( قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ، قل : الله ييحيكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . ولكم أكثر الناس لا يعلمون ) .
وقد واجهه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم وتحدث عنهم في هذه السورة ...كذلك واجههم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، وحذرهم حساب يوم القيامة وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين الله القويم .
واجههم بآيات الله في أسلوب بسيط مؤثر عميق :( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ، وفي خلقكم وما يبث يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها . وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون . تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، فبأي حديث بعد الله يؤمنون ؟ )
وواجههم مرة أخرى في صورة نعم من أنعم الله عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها : ( الله سخر لكم البحر لتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وسخر لكم مافي السماوات ومافي الأرض جميعاً منه . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )
كذلك يواجههم بحالهم يوم القيامه الذي ينكرونه : (يوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون )
كذلك لم يدع أي شك في عدالة الجزاء وفردية التبعية ، فبين أن هذا الأصل في تكوين الوجود كله ، وعليه يقوم هذا الوجود : ( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم ترجعون )
ويرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند الله كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات : ( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون )
والسورة كلها وحدة في موضوعها ، وتبدأ بالاحرف : ( حا . ميم ) إشارة إلى القرآن الكريم . ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وإيضاح هادىء . وبيان دقيق عميق ، يأخد القلوب تارة باللمس الناعم الرقيق ، وتارة بالقرع والطرق ، وتارة بالبيان الهادىء الرقيق حسب تنوع حالاتها ومواقفها . وهو اللطيف الخبير وهو العزيز الحكيم .