هذه السورة مكية تعالج قضية العقيدة . قضية الإيمان بواحدانية الله وربوبيته المطلقه لهذا الوجود ومن فيه وما فيه . والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم – رسول سبقته الرسل ، أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب . و الإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ماكان في الحياة ما كان من عمل وكسب من إحسان وإساءة .
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله .ومن ثم عالجها القرآن في كل صورة مكية علاجاً أساسياً ، وظل يتكأ عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية . ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بواحدانية الله ، وبعثة محمد – صلى الله عليه وسلم – والإيمان بلآخرة ومافيها من جزاء ..هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها وترتبط به أوثق ارتباط فتبقى حية حارة تنبعث من تاثير دائم بذلك الإيمان .
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل ، وتوقع على كل وتر ، وتعرضها في مجالات شتى ،مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية . كما أنها تجعلها قضية الوجود كله – لاقضية البشر وحدهم – فتذكر طرفاً من قضية الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه . وتقيم من الفطرة الصادقة شاهداً كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهداً . سواء بسواء .
تم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض ، وفي مشاهد القيامه في الآخرة . كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة . وتجعل من السماوات والأرض كتاباً ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء .
ويمضي سياق السورة في (أربعة أشواط ) مترابطة ، كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع .
يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة بالحرفين ( حا. ميم ) تليها الإشارة إلى كتاب القرآن والوحي به من عند الله : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) وعقبها مباشرة الإشارة إلى كتاب الكون . وقيامه على الحق . وعلى التقدير والتدبير : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى )..فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير : (والذين كفروا عما أنذروا معرضين ) وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخد في عرض قضية العقيدة مبتدئاً بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون ، ولا يستند إلى حق من القول ، ولا مأثور من العلم : ( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله ؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض ؟ إم لهم شرك في السماوات ؟ ) ..ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقولهم هذا سحر مبين ، ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين : ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ..ويستطرد في عرض معاذيرهم الواهية وهم يقولون عن المؤمنين : (لو كان خيراً ما سبقونا إليه )..ويكشف عن علة هذا الموقف : ( وإذا لم يهتدوا فسيقولون : هذا إفك قديم ) ...ويشير إلى كتاب موسى من قبله ، وإلى تصديق هذا القرآن له ، وإلى وظيفته ومهمته : ( لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ) ...ويختتم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريق : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) .
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية : المستقيمة والمنحرفة ، في مواجهة قضية العقيدة ، ويبدأ معهما من النشأة الأولى ، وهما في أحضان والديهما ويتابع تصرفهم عند بلوغ الرشد والتبعه والاختيار . فأما الأول فشاعر بنعمة الله بوالديه ، راغب في الوفاء بواجب الشكر ، تأئب ضارع مستسلم منيب : ( أولئك الذين نتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة . وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) ....أما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه ، وهو جاحد منكر للآخرة ، وهما به ضيقان متعبان : ( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ، إنهم كانوا خاسرين ) ...ويختتم الشوط بمشهد سريع من مشاهد يوم القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريق : ( يوم يعرض الذين كفروا على النار . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ، وبما كنتم تفسقون ) ...
والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد ، عندما كذبوا بالنذير ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم التي توقعوا فيها الرى والحياة ، فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار ، والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوه : ( فلما رأوه عارضاً ممطرنا ، بل هو ما استعجلتم به ، ريح فيها عذاب أليم ) ..ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى ، وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم ، وظهور إفكهم وافترائهم ، لعلهم يتأثرون ويرجعون ...
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن ، حين صرفهم الله لاستماعه ، فلم يملكوا أنفسهم من الاستجابة ، والشهادة بأنه الحق : ( مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم ) ....وعادوا ينذرون قومهم ويدعونهم إلىالايمان : (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ) . وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادة : ( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي الموتي ؟ ) ..ويلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار )
وتختم السورة بتوجيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب ، فإنما هو أجل قريب يمهلونه ، ثم يأتيهم العذاب والهلاك : ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولاتستعجل لهم ، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون )