قال تعالى : ( إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيم * أَمْراً مِنْ عِندِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِن رَبّكَ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبّ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ * لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَائِكُمُ الْأَوّلِينَ ) الدخان / 3 ـ 8 .
وقال تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) البقرة / 185 .
نزول القرآن :
إن القرآن الكريم نزل على مدى ثلاث وعشرين سنة ـ وهي فترة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إضافة إلى أن لمحتوى القرآن ارتباطا وعلاقة بالحوادث المختلفة التي وقعت في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين طوال (23) سنة ، بحيث أنها إذا فصلت عن القرآن الكريم فسيكون غير مفهوم ،
فإذا كان الحال كذلك فكيف نزل القرآن الكريم كاملا في ليلة القدر ؟
ذهب البعض هذا المعنى ببداية نزول القرآن ، وبناءً على هذا فلا مانع من أن تكون بداية نزوله في ليلة القدر ، وينزل الباقي خلال ( 23 ) سنة .
غير أن هذا التفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية مورد البحث ، ومع آيات أخرى في القرآن المجيد .
وللإجابة على هذا السؤال يجب الانتباه إلى أننا نقرأ في هذا الآية : ( إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) من جهة ، ومن جهة أخرى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ومن جهة ثالثة نقرأ في سورة القدر: ( إِنّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فيستفاد جيدا من مجموع هذه الآيات أن الليلة المباركة في هذه الآية إشارة إلى ليلة القدر التي هي من ليالي شهر رمضان المبارك .
علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن :
إنه يستفاد من آيات عديدة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عالما بالقرآن قبل نزوله التدريجي ، كالآية (114) من سورة طه: ( وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) . وجاء في الآية (6) من سورة القيامة: ( لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) .
من مجموع هذه الآيات يمكن الاستنتاج أنه كان للقرآن نزولان :
الأول : نزوله دفعة واحدة ، حيث نزل من الله سبحانه على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهر في ليلة القدر من شهر رمضان .
الثاني : نزول تدريجي ، حيث نزل على مدى (23) سنة بحسب الظروف والحوادث والاحتياجات .
الشاهد على النزول:
أن بعض الروايات قد عبرت بالإنزال ، وبعضها الآخر بالنزول .
والذي يفهم من متون اللغة أن ( التنزيل ) يستعمل في الموارد التي ينزل فيها الشئ تدريجيا ومتفرقا .
أما ( الإنزال ) فله معنى واسع يشمل النزول التدريجي والنزول دفعة واحدة .
الطريف أن كل الآيات المذكورة التي تتحدث عن نزول القرآن في ليلة القدر وشهر رمضان قد عبرت بـ ( الإنزال )، وهو يتوافق مع النزول دفعة واحدة ، في حين عبر بالتنزيل فقط في الموارد التي دار الكلام فيها حول النزول التدريجي للقرآن .
كيف كان النزول جملة على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
هل كان على هيئة هذا القرآن الذي بين أيدينا بآياته وسوره المختلفة ، أم أن مفاهيمه وحقائقه قد نزلت بصورة مختصرة جامعة ؟
ليس الأمر واضحا بدقة ، بل القدر المتيقن الذي نفهمه من القرائن ـ أعلاه ـ أن هذا القرآن قد نزل دفعة واحدة في ليلة واحدة على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة ، ونزل على مدى (23) سنة بصورة تدريجية مرة أخرى .
الشاهد لهذا الكلام ، أن للتعبير بالقرآن ـ في الآية أعلاه ـ ظهوراً في مجموع القرآن .
صحيح أن كلمة القرآن تطلق على كل القرآن وجزئه ، لكن لا يمكن إنكار أن ظاهر هذه الكلمة هو مجموع القرآن عند عدم وجود قرينة أخرى معها . والتي فسر بها البعض هذه الآية بأنها بداية نزول القرآن .
وقالوا : إن أول آيات القرآن نزلت في شهر رمضان وليلة القدر ، الأمر الذي يخالف ظاهر الآيات .
وأضعف منه قول القائل : لما كانت سورة الحمد ـ التي هي خلاصة لمجموع القرآن ـ قد نزلت في ليلة القدر ، فقد عبر بـ ( إِنّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) . إن كل هذه الاحتمالات مخالفة لظاهر الآيات ، لأن ظاهرها أن كل القرآن قد نزل في ليلة القدر .
الشئ الوحيد الذي يبقى هنا هو ما نقرؤه في روايات عديدة رويت في تفسير علي بن إبراهيم , عن الإمام الباقر والصادق وأبي الحسن موسى بن جعفر
(عليهم السلام) أنهم قالوا في تفسير: ( إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) , (( هي ليلة القدر ، أنزل الله عز وجل القرآن فيها إلى البيت المعمور جملة واحدة ، ثم نزل من البيت المعمور على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في طول عشرين سنة ))(2).
التفتوا جيدا إلى أن الرواية قد عبرت عن النزول جملة واحدة بـ ( أنزل ) وعن النزول التدريجي بـ ( نزل ) .
أين هو( البيت المعمور) ؟
صرحت روايات عديدة بأنه (( بيت في السماوات بمحاذاة الكعبة ))، وهو (( محل عبادة الملائكة ، ويحج إليه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة )) , لكن في أي سماء هو ؟
الروايات مختلفة ، ففي كثير منها أنه (( في السماء الرابعة )) ، وفي بعضها أنه (( في السماء الأولى )) أي السماء الدنيا , وجاء في بعضها (( أنه في السماء السابعة )) .
ونطالع في الحديث الذي نقله العلامة الطبرسي في مجمع البيان في تفسير سورة الطور عن علي (عليه السلام) : (( هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة ، تعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة ، ويدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبدا )) .
على أية حال ، فإن نزول القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور في ليلة القدر لا ينافي علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به مطلقا ، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا سبيل له إلى اللوح المحفوظ الذي هو مكنون علم الله ، إلا أنه عالم بالعوالم الأخرى .
وبتعبير آخر ، فإن ما استفدناه وفهمناه من الآيات السابقة ، بأن القرآن نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتين :
أولاً : نزولا دفعياً في ليلة القدر .
ثانياً : نزولا تدريجياً طوال (23) عاما .
وهذا لا ينافي الحديث المذكور الذي يقول : (( إنه نزل في ليلة القدر إلى البيت المعمور )) ، لأن قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلع على البيت المعمور .
إذا كان القرآن نزل في ليلة القدر, فكيف كانت بداية بعثة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في السابع والعشرين من شهر رجب طبقا للروايات المشهورة ؟ حيث كان لنزوله في رمضان صفة الجمع والكلية ، في حين أن أول آياته نزلت في (27) رجب ، كبداية للنزول التدريجي ، وبذلك فلا مشكلة من هذه الناحية .
والآية التالية وصف وتوضيح لليلة القدر ، حيث تقول : ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) .
التعبير بـ ( يُفْرَقُ ) إشارة إلى أن كل الأمور والمسائل المصيرية تقدر في تلك الليلة .
والتعبير بـ ( حَكِيمٍ ) بيان لاستحكام هذا التقدير ، وعدم تغيره ، وكونه حكيما .
غاية ما في الباب أن هذه الصفة تذكر عادة لله سبحانه ، ووصف الأمور الأخرى بها من باب التأكيد .
وهذا البيان ينسجم مع الروايات الكثيرة التي تقول : إن مقدرات كل بني آدم لمدة سنة تقدر في ليلة القدر ، وكذلك تفرق الأرزاق والآجال والأمور الأخرى في تلك الليلة . وتقول الآية الأخرى لتأكيد أن القرآن منزل من قبل الله تعالى : ( أَمْراً مِنْ عِندِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ ) .
علة نزول القرآن:
لأجل تبيان العلة الأساسية لنزول القرآن وإرسال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكون المقدرات في ليلة القدر .
تضيف الآية : ( رَحْمَةً مِن رَبّكَ ) , نعم ، فإن رحمته التي لا تحد توجب أن لا يترك العباد وشأنهم ، بل يجب أن ترسل إليهم التعليمات اللازمة لترشدهم في سيرهم إلى الله عبر ذلك المسير التكاملي الملئ بالالتواءات والتعرجات ، فإن كل عالم الوجود يصدر عن رحمته الواسعة وينبع منها ، والبشر أكثر تنعما بهذه الرحمة من كل الموجودات .
وتذكر نهاية هذه الآية - والآيات التالية من سورة الدخان - سبع صفات لله سبحانه ، وكلها تبين توحيده ووحدانيته ، فتقول : ( إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فهو يسمع طلبات العباد ، وهو عليم بأسرار قلوبهم .
ثم تقول مبينة للصفة الثالثة: ( رَبّ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ ) لما كان كثير من المشركين يعتقدون بوجود آلهة وأرباب عديدين ، وكانوا يظنون أن لكل موجود من الموجودات إله , ولما كان التعبير بـ ( رَبّكَ ) في الآية السابقة يمكن أن يوهم أن رب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير رب الموجودات الأخرى ، فإن هذه الآية أبطلت كل هذه الأوهام بجملة ( رَبّ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) وأثبتت أن رب كل موجودات العالم واحد . وجملة: ( إِن كُنتُم مُوقِنِينَ ) التي وردت هنا بصيغة الجملة الشرطية ، تبعث على التساؤل :
هل أن كون رب العالم ربا، مشروط بمثل هذا الشرط ؟
الظاهر أن المراد من ذكر هذه الجملة هو بيان أحد معنيين أو كليهما :
الأول : إذا كنتم طلاب يقين ، فإن السبيل إلى ذلك هو أن تتفكروا في ربوبية الله المطلقة .
والآخر : إذا كنتم من أهل اليقين فإن أفضل مورد لتحصيل هذا اليقين هو أن تتفكروا في آثار رحمة الله .
فإنكم إذا نظرتم إلى الآثار في كل عالم الوجود دلتكم على أن الله رب كل شئ ، وإذا فلقتم قلب كل ذرة رأيتم فيه دلالة على هذه الربوبية ، ثم إذا لم توقنوا بعد هذا بكونه تعالى ربا ، فبأي شئ في هذا العالم يمكن أن توقنوا وتؤمنوا ؟
وتقول في الصفة الرابعة والخامسة والسادسة: ( لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ), فحياتكم ومماتكم بيده ، وهو سبحانه ربكم ورب العالمين ، وعلى هذا فلا إله سواه ، أو يكون من ليس له مقام الربوبية ولا أهليتها ، ولا يملك الحياة والموت ربا.
وتضيف في الصفة السابعة: ( وَرَبّ آبَائِكُمُ الْأَوّلِينَ ) فإذا قلتم : إنكم إنما تعبدون الأصنام ، لأن الأصنام ، لأن آباءكم كانوا يعبدونها ، فاعلموا أن ربهم هو الله الواحد الأحد أيضا ، وعلاقتكم بآبائكم وارتباطكم بهم يوجب عليكم أن لا تعبدوا إلا الله ، وأن لا تخضعوا إلا له ، وإذا كان سبيلهم غير هذا السبيل فقد كانوا على خطأ بلا ريب .
علاقة القرآن بليلة القدر :
مما يجدر الانتباه إليه أنه ورد في هذه الآيات تلميحا ، وفي آيات سورة القدر تصريحا ، أن القرآن نزل في ليلة القدر ، وكم هو عميق هذا الكلام ؟ !
ففي تلك الليلة التي تقدر فيها مقدرات العباد وأرزاقهم ، ينزل القرآن الكريم على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهر .
ألا يدل هذا على أن هناك علاقة صميمية بين مقدراتكم ومصائركم وبين محتوى هذا الكتاب السماوي ؟
ألا يعني هذا الكلام أن هناك علاقة لا تقبل الانفصال بين القرآن وبين حياتكم المعنوية ، بل وحتى حياتكم المادية ؟
فقد أدى إلى انتصاركم على الأعداء ، وشموخكم وحريتكم واستقلالكم ، وعمران مدنكم ورقيكم .
أجل ، في تلك الليلة التي كانت تقدر فيها المقدرات ، أنزل القرآن أيضا .