الدولة البيزنطية في فلسطين لغاية الفتح العربي:
تاريخ بلاد الشام طغت منذ بداية القرن الثالث الميلادي على الحروب المستمرة، بين الدولة الساسانية الفارسية والدولة الرومانية، علماً بأن الدولة البيزنطية حافظت منذ قيامها، على ما ورثته من مؤسسات ونظم وترتيبات إدارية، جاءت نتيجة للتجربة الهلينية الرومانية متراكمة ومجتمعة، ومن أبرزها قيام الحكم المركزي المطلق، الذي يعتمد على سلم بيروقراطي تكاد تنعدم فيه، المرونة فقد تولى شؤون الامبراطورية المطلق، بعد قسطنطين وحتى نهاية 527سبعة عشر امبراطورا، وبالنسبة لفلسطين فإن أهم ما تم في هذه الفترة هو العناية بتطوير الادارة، فالوالي الذي يمثل السلطة المركزية العليا أي الملك، هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وداخل حدود ولايته في فلسطين كانت مدن لها إدارتها المدنية الخاصة بها، مثل بيسان، وقيصرية (الساحل) ونابلس وسبسطية وصفورية وعكا وغزة وبيت جبرين، مستقلة تصك النقود الخاصة بها، لها حدودها، إلى أن أصبحت فلسطين سنة 400م مقسمة إلى ثلاثة أقسام إدارية فلسطين الأولى والثانية والثالثة (الصحراوية) أو (الداخلية). الأولى كانت تضم القدس (إيليا كابيتولينا) قيصرية (قيسارية) دور الطنطورة، رأس العين، اللد، يبنه، عمواس، كفر عانة، عسقلان، غزة، رفح ، بيت جبرين، نابلس سبسطية، أريحا، اسدود، تل الفارعة، الخليل، أما فلسطين الثانية: بيسان، أم قيس، اللجون، صفورية، دبورية، طبريا، الكرك، الحصن، الخليل الأعلى، اما فلسطين الثالثة: بئر السبع، أراد (تل عراد)، العقبة (إيليا)، عوجا الحفير، سبيطة، مقسمة إلى 31 قضاءاً فيها 31 مدينة، 422 قرية، عدا عن القلاع والحصون، وفي الفترة التي تلت عهد قسطنطين تطورت الكنيسة في فلسطين والجوار، حيث كان انتشار المسيحية في المدن بداية، ثم الريف، ثم مع الطرق التجارية، وقد تخلصت من التصاقها باليهودية كديانة جديدة متمثلة في اتجاهين مشرقي يمثل في الكنيسة التي نظمت أمورها في بلاد الشام وبعض مناطق العراق، وكانت اللغة المستعملة في خدمتها السريانية، وفي مصر استعملت اللغة المرقسية القبطية، والاتجاه الثاني الذي ظهر في آسيا الصغرى وبلاد اليونان والاسكندرية والذين كانوا يعتمدون اللغة اليونانية، قامت بينها خلافات متعددة ومتباينة، لتباين الخلفيات التاريخية والحضارية والاجتماعية لفئاتها المتعددة، وخاصة خلافات لاهوتية حول عدة أمور، كان تنظيم الكنيسة في فلسطين يسير على أساس الوحدات الادارية، فحيث يوجد مسيحيون وكنيسة أو كنائس كان يتولى إدارتها "أسقف" يتم انتخابه من قبل العلمانيين ورجال الدين..
لم يتبدل سكان فلسطين من القرن الرابع لغاية القرن السادس من حيث العناصر إلا بازدياد عدد العرب بين السكان إلى الأدمويين في الجنوب، والأيطوريين في الشمال الشرقي، والقبائل التي كانت تقطن الساحل الجنوبي والأوسط، إزدادوا بالقبائل الغسانية، وبعض الأنباط، ودخول الأنباط كجنود وتجار و موظفين، وقد تبدل الوضع الديني وبقي فئة من اليهود كانت على عادتها من العنصرية من التحجر الفكري والاجتماعي، كما ظل السامريون الذين ينتشرون في فلسطين على دينهم، يعيشون جميعهم على الزراعة والتجارة والصناعة، وقد استعملوا الاقتصاد العيني بدل الاقتصاد النقدي أي المقايضة فيما بينهم، وقد بنى الرومان في هذا العهد عدة جسور وطرق وموانئ ادت إلى ازدهار فلسطين من الناحية التجارية والعسكرية. أما التعليم فكانت مسؤولية الأسرة نفسها حيث يقوم الآباء بتعليم أبنائهم بتوفير المعلمين لهم، وعنيت المدينة بتوفير التعليم العالي، ، وأنشئوا مؤسسات البحث العلمي والمكتبات العامة والخاصة، وعرفت من بين مدارسهم مدرسة غزة في القرن السادس، للحفاظ على الفكر الهليني لتوضيح الفكر المسيحي..
في دراسة التطور الحضاري في فلسطين لغاية مجيء العرب، والتي ترجمته النقوش والآثار والقيود والنصوص التاريخية. وما عرفته من مؤلفات في جميع مجالات الحياة والمسرح، وما يشبه ذلك من الأبنية التي كانت تتم فيها الاحتفلات العامة، والنحوتات، وبناء المنازل ، و الرسوم الفنية، والمصنوعات الفنية، وفنون البناء، ما أثبت أن المسيحية، الدين الجديد، نمت وترعرعت في إطار إجتماعي ثقافي روماني مميز، بالهيكل الوثني، بكل ما في من اتقان في البناء والزخرفة، والثاني الباسلكيا المبني الواسع المستطيل الشكل، حيث اخذت الكنيسة بأسس وقواعد للبناء، اعتمد التراث الفني والفكري الذي كان سائداً في ذلك الوقت، وفي فلسطين كان التراث الهلينستي هو السائد بفنونه وبنائه وتنظيمه..
كانت الحروب بين البيزنطيين والساسانيين تعنف وتهدأ، وكانت تعقد بين الدولتين معاهدات واتفاقات صلح متعددة لا تلبث أن تلغي وتقع الحروب مجدداً بين البلدين، ولكن كان لهذه الحروب آثار كبيرة فيما يتعلق بالادارة والتنظيم في البلاد، فقد وجد العرب الفاتحون إدارة بيزنطية في فلسطين قد تآكلت، وتضاربت المصالح العامة والخاصة فيها بحيث أن البلاد لم تتمكن من الوقوف أمام الفاتحين..
** فلسطين والفتح العربي:
كانت فلسطين تقع تحت حكم البيزنظيين، في صلب الأحداث التي نجمت عن الحروب الانتقامية التي شنها (هرقل) على فارس، رداً للهجوم الذي قام به كسرى الثاني (590-628م) على بيزنطة في الأناضول وانطاكية ودمشق وبيت المقدس، التي تركها نهباً للحرائق ودمر فيها كنيسة القيامة وغيرها من بيوت العبادة، وأعمل السيف في أهلها عام 614م، وحمل معه الصليب المقدس وعاد به إلى عاصمته، وقد استرد (هرقل) ما فقده من أرض ومن جملتها فلسطين، كان الحكم الفارسي قد دام اثنتي عشرة سنة، فقدت خلالها بيزنطة الكثير من نفوذها وهيبتها، وخاصة في المناطق الجنوبية من بلاد الشام (فلسطين)، بعد إيقاف المساعدات المالية المدفوعة لهذه المنطقة، مقابل حراسة الحدود، ولم تكن الحال بأفضل في المجال الديني، إذ أن الانشقاق في الكنيسة الذي حدث في منتصف القرن الخامس أدى إلى تصدع وحدة المجتمع الروحية.
كان الفتح العربي لبلاد الشام ومنها فلسطين، جزءاً من مخطط بدأ تنفيذه منذ حياة الرسول (ص)، تطبيقاً لمبدأ عالمية الدعوة الإسلامية: الأقربون، عرب الجزيرة، العرب خارج الجزيرة، شعوب العالم، فكانت بدايات الفتح للعرب خارج الجزيرة، علماً بأن العرب خارج الجزيرة، غالبية قبائلهم تحالفت مع البيزنطيين لعاملين أساسيين أولهما عامل الدين إذ كان بعضها يدين بالنصرانية، والثاني عامل الاستقلال القبلي ورفض تدخل أية قوة خارج عن إطار القبلية، كان اللقاء الأول للفاتحين مع هذه القبائل، ثم تم فتح المدن ذات الغالبية العربية الواقعة جنوب بلاد الشام، ثم أواسط بلاد الشام، ثم المدن الساحلية، ومعظم هذه المدن تم فتحها بعد حصار طويل، وقد سهل على الفاتحين التناقض في التركيب السكاني وتعدد الديانات، وسوء الادارة البيزنطية، والخلافات المذهبية، وقد أقامت الجيوش الفاتحة قواعدها العسكرية المركزية في الجابية في الجولان منطقة الغساسنة والرملة في فلسطين، ونزل القادة الفاتحون في طبريا، وبيسان، وفي القدس (إيلياء)..
[/size]