الناس ليسوا سواسية في تركيبتهم النفسية ، فمنهم الحسيون الذين يأخذون الحياة عن طريق الحس ، و منهم المنطقيون الذين لا تحركهم العواطف بقدر ما تحركهم النتائج الاستدلالية ، و منهم من يجمع بين الحس تارة ، و بين المعنوية تارة أخرى ، حسب تغيرات مزاجهم ، و تقلبات أحوالهم ، ومنهم من تتحرك عاطفته بمجرد لمسة واحدة لدقة أوتارها ،ومنهم من اجمتعت فيه تلك الخطوط كلها ، فبمجرد التوقيع عليها تتفاعل فيما بينها ، و هكذا لكل فئة لمستها الخاصة بها ، فنشأت على غرارذلك مدارس ذوات مشارب مختلفة تحت إشراف "مدرسة العلوم الاجتماعية " ، روادها [
ماركس] في الاقتصاد ، و [فوريد] في النفس ، و [
ديوي] في التربية ، و [
دوركايم] و[
ليفي بريل] في الاجتماع و الأخلاق ، و القصد منها مسايرة النفس في رغباتها ، و ذلك بإطلاق العنان للغرائز، و السباحة فيها بكل حرية لبلوغ اللذة القصوى المنشودة ،،، و شُحذت لذلك الغرض ترسانة من الأقلام المأجورة و الأفلام المبثوثة ، لتدعيم هذه المدرسة و توطيد أركانها الرامية إلى هدم الخطوط الفطرية للإنسان، و تولى كبر هذه الدعاية و الحملة السامة الإيديولوجية التلمودية ،، و لكن رغم قساوة هذه الهجمات الشرسة وشدتها ؛ تصدعت ، و انكشفت سوءاتها نتيجة بعدها عن غذائها الفطري كما جاء صريحا في قوله تعالى : (
ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير) ، و لقد تفطن إلى هذا الإنزلاق الخطير المؤرخ "بول كينيدي" في كتابه سقوط الحضارات قائلا : (
إن أمريكا اليوم تتآكل داخليا لبعدها عن حقيقة الروح..).فالقرآن وحده يعالج جميع الأوتار و الخطوط الموجودة في نفس الإنسان، سواء كانت منفردة أو مجتمعة، خلاف تلك المدارس التي اصطدمت فيما بينها نتيجة العزف العشوائي المنطلق بلا عقال على تركيبة الإنسان ،،، و هذا ما سنفصله في هذا البحث المتواضع إن شاء الله من خلال اللمسات الربانية العجيبة
.أولا اللمسة الروحية الروح شيء مبهم ليس له حدود ، و هذا الغموض الذي يحيط بها ، وهذا العجز عن إدراك كنهها ؛ هو الذي جعل الماديين في العصر الحديث يهملوها ، و يسقطوها من البناء الحضاري ، فكل ما لا تراه الحواس في نظرهم ؛ فهو غير موجود ! و لكن [
ألدوس هكسلي] رغم أنه لا يِؤمن بالدين يرد عليهم بهذه الروح الكامنة في نفسه قائلا :"
إنه لم يعد لنا مناص من الإعتراف بأن بعض البشر مزود على استشفاف المجهول بطريقة خارجة عن نطاق الحواس.." و لكن لو استقرأنا النصوص القرآنية لوجدناها تجيب بكل وضوح عن هذا الأمر الذي أستشكل على الماديين ، كمثل قوله تعالى
يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) ، فهي في تصور الإسلام مجهولة الكنه ، مبهمة المعالم ، و لكن نتائجها معلومة ، و آثارها ملموسة لا تخفى إلا على أصحاب العقول الصغيرة كما قيل:
و النجم تستصغر الأبصار صورته***و الذنب للطرف لا للنجم في الصغر فمهندس الطائرة ، و مصممها ؛ وحده الذي يعرف مكامن العطب فيها ، و القادر على إصلاحها دون غيره ، فكذلك الروح التي هي من أمر ربي لا يصلح أمرها إلا فاطرها ، ، فإذا حرك الإسان إحساسه و وجه رؤيته صوب خالقها تحركت خيوط الإجابة ، و إذا وصل روحه بالله استنار سراج قلبه ، تماما كالأزرار الإلكترونية ، إذا ضغطت على (
on) تنور القلب ، و إذا ضغطت على الزر (
off) انطفأ القلب و دخل في دياجير الظلمة ، فهو ليس بخارج منها إلا بالعودة و الوصال (
أومن كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). فالوصال وحده الذي يوقظ الروح من غفلاتها ، و يغدق عليها من نسمات الوحي ، و لمسات القرب،،، و القرآن فريد بأسلوبه في هذا المجال ، حافل بهذه الإثارة التي تهز روح الإنسان ، و تفتح بصيرته على آيات الرحمن ، حيث يعيش في جو القرآن ،و يسبح في ملكوت الله بلا وسائط.إقرأ ببصيرتك قوله تعالى : (
إن الله فالق الحب و النوى ، يخرج الحي من الميت ، و مخرج الحي من الميت ، ذلكم الله ربكم فأنى تؤفكون ! فالق اإصباح ، و جاعل الليل سكنا ، و الشمس ، و القمر حسبانا ؛ ذلك تقدير العزيز العليم ، و هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر و البحر ، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ، و هو الذي أنشأكم من نفس واحدة ، فمستقر ، و مستودع ، قد فصلنا الآيات لقوم يفقههون )...
هكذا يوقظ القرآن الحس لآيات الله في الكون ، مشعرا بالقدرة القادرة من وراء كل آية ، و اليد المبدعة وراء كل تدبير ، و من ثم تتوجه الروح إلى الخالق تسبح بحمده ، و تنعم بقربه ، و تتطلع إلى حماه ، و لا ترى ربا سواه ،،، إن هذه الجولات المسحية التي يجولها القرآن مع نفس الإنسان ، تملكه حب الله ، حتى و هو يخافه ، و يخشاه،،،! إنها لمسة عجيبة من لمسات القرآن .
ثانيا اللمسة العقلية: لمسات النصوص القرآنية و مساحاتها واسعة في تحريك العقل ، لكونه من أكبر النعم التي كُرّم بها الإنسان على سائر المخلوقات ، و لكونه الوسيلة التي بها يطل على أسرار هذا الكون المشهود ، فهي تلامسه تارة ، و تؤنبه تارة أخرى و تخاطبه من جميع الزوايا ثالثة ، و توجهه رابعة إلى التأمل في حكمة اله ، و تدبير شؤون الكون ، و نظامه الدقيق الذي لا يختل ، كإمساك السماء أن تقع على الأرض ، و تثبيت الجال لئلا تميد بنا الأرض،،،هذه هي منهجية القرآن في مداعبة العقل ، و تعليمه الإنسجام ، و النظام و هو يرى تلك الدقة في تسيير هذا الكون الفسيح ، و من ثم يضبط هو كذلك أفكاره ، و يستعملها للوصول إلى الكليّات التي تربط الجزئيات ، و تحكمها...
و الفلسفات عالجت هذا العقل ، و رسمت له منهجية خاصة تجريبية قصد الوصول إلى الحقائق ، و النتائج ، و من روّاد هذه المنهجية [
ديكارت] و [
كلود برنار] ، و غيرهما ،، و بناء عليه صاغوا تعريفا للمنهج على أنه : "
فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة من أجل الكشف عن الحقيقة..." ، و لكن هذه النظريات باتت تتخبط في ذهنيات جافة مجردة لا تنبض بالحياة ، و لا تصل إلى غاية ، بيد أن القرآن فمنهجيته تختلف تماما عن المناهج الأرضية ، لأن غايته إصلاح العقل ، و تصميم وعيه على هدىَ من الله لأقامة الحياة في الأرض على أسس من الحق و العدل ، اللذين قام الكون ، و الحياة بهما معا،،، فكما أن العين لا ترى في الظلام لتعذر الضوء ، فكذلك العقل مهما بلغ من الإبتكارات ؛ فسيظل يتخبط في ظلمات الجهل لفقدان نور الله ، و لا أدل على ذلك من الحروب الطاحنة التي أتت على الأخضر و اليابس من أجل السيطرة على خيرات هذا الكون ،،،غير أن لمسة واحدة من القرآن غيرت مجرى التاريخ برمته ، بعدما حررته من الأوهام ، و الخرافات التي كانت تلازمه في الحل و التَرحال ، و العلم التجريبي الذي قام عليه كل العلم الأروبي هو باعتراف الأروبيين أنفسهم ؛ تراث إسلامي أصيل ، يقول ل[
ه.ر.جب] في كتابه "الإتجهات الحديثة في الإسلام" " أعتقد أنه من المتفق عليه أن الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدم اتلمعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة ، و أنه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى أروبا في العصور الوسطى.." ... إن الإنسان إذا فتح أجهزة الإستقبال عنده ، و تخلّص من الفيروسات العالقة به ؛ اتضحت له لوحة هذا الكون بجميع ألوانها على مد البصر؛ ، فيرى لون السموات و الأرض ، تتبعه خيوط الماء النازل من السماء ، و الثمرات النابتة من الأرض بهذا الماء ، فامواج البحر تجري فيها الفلك ، و الأنهار تجري بالأرزاق،،، ،و ضوء الشمس و نور القمر متصلان بالأرض ،،،إنه الإعجازالذي تتناسق فيه كل لمسة ، و كل خط ، و كل لون ، و كل ظل ، لا يترك ذرة في الإنسان إلا و وصل إليها ، و مسح عليها بلمساته السحرية الصامتة .
دع الدور و اطلب فسيح البراري***و انظر إلى صفحات الجمال
على حافة الماء دون مـــــــلال *** تأمــل ترقرق مـــــــاء زلال
و حدّق إلى نرجس ذي دلال *** و قبّل عيونا لـــــه كالــــــــلآل[/color ي
ثالثا اللمسة الجسمية :
القرآن الكريم في علاج الكيان البشري متكامل ، لا يترك جزئية من جزئياته للصدفة أو يجعله تجربة للأهواء البشرية ، بل يأخذ كل جزئية على حدى ، كما يأخذها مجتمعة ، و هذا هو الكمال و الإتساق ، فلا ينبغي البتة أن يكون قلب الإنسان لله ، و جسمه عبدا للشهوات ، و رغباته سجنا للذات،،، بل ينبغي أن تكون هذه الأجزاء كلها لله لأحداث التوازن الطبيعي المنسجم مع هذا الكون الدقيق ، و لهذا لم يترك القرىن هذا الأمر لأهواء البشر ، و أفكارهم ، القائلة بأن النفس البشرية تنعكس بمؤثرات الجسم الكهربائية و الكيميائية ، أو تنطلق بدوافغ الغريزة بحثا عن اللذة القصوى المفضية إلى السعادة الدنيوية ، أو ما شابه ذلك من الترهات الهستيرية...فالقرآن قد أعلنها ابتداءا و انتهاءا بأنه هناك اتصالا وثيقا و لصيقا بين النفس و الجسم ، لا فكاك لأحدهما عن الآخر ،،، فخالق هذه النفس هو الخبير بأشواقها ، و تطلعاتها ، و هو اللطيف الرحيم بضعفها ، و قصرها ، فهو يعترف بالرابطة القائمة بين الرجل و المرأة ، في مجال الغريزة ، و الأحاسيس ، و الجنس ، و الإيمان بحقها ، و حمايتها من الإضطراب و التصدع،،، و من هنا فإن الإسلام لا يعرف قضية من قضايا الجنس ، أو ثورة من ثورات الخبز ، أو أزمة من أزمات الكبت ، كما أنه لم ينظر إلى العلاقة بين الرجل و المرأة على أنها علاقة رغبة ، بل نظر إليها على إنها علاقة مودة و رحمة،،، فالقرآن يعترف بتطلعات الجسم إعترافا كاملا صريحا ن لا يعترف بها خلسة في دياجير الظلمة ، كما تفعل بعض الأديان ، و النحل التي تدعو إلى عبادة الجسد و الإغراق في الإباحية ، بل يسلط عليها الأضواء ليهذبها و ينقيها ن لا ليكبتها و يقمعها ...إنها رحمات الله على عباده لتبقى الصورة صافية ، و موجات التلقي قوية ، تقول لهم ؛ إن فساد الفطرة ، و الإنغماس في اللذات، و الانسياق و راء الشهوات يشوش على الرؤية ، و تقول لهم ، من ترك الفاحشة و النظرات المحرمة أبدله الله بها حلاوة يجدها في قلبه ، إنها أسرار ربانية ، و أنوار إلاهية يغدقها الله على عباده نتيجة انسجامهم مع الفطرة ، طبعا يجهلها الأرضيون الذين كبلتهم شهوات الدنيا بسلاسلها الحديدية..و لو ذاقوها لسبقونا إليها.!
و شهد شاهد من أهلها :
لقد حاولت دعوات مدارس العلوم الإجتماعية من خلال أفلام الجنس ، و صحافة الجنس ، و أنترنت الجنس ؛ أن تؤكد للبشرية بأن السعادة تكمن في نزع رداء الحياء ، و الإرتماء في نيران الحب الأعمى الذي ينفس عن الآلام ، و يرمي بالأحزان في بحر الفضيلة المنغلقة و هلم جرا من الشعارات المزخرفة ...
و لكن الطب البيولوجي يفند جميع هذه الدعاوى الفلسفية الفاحشة ، و يؤيد و يؤكد ما جاء به القرآن ، يقول الدكتور[[color=#ff6347]ألكسيس كاريل] : " و من المعروف أن الإفراط الجنسي يعرقل النشاط العقلي ، و يبدو أن العقل يحتاج إلى وجود غدد جنسية حسنة النمو ، و كبت مؤقت للشهوة الجنسية حتى يستطيع أن يبلغ منتهى قوته.." ، أشار "كاريل" إلى أن ملاحظات [
فرويد] تخص المرضى ، و من ثم لا يجب أن تعمم ، و أن الإفراط يطمس الغدد الفكرية ، فتصبح منسوخة جزئيا ، فتطغى بذلك الغدد الجنسية المفضية إلى المطالبة بالمزيد ، فلا ترتاح إلا حين ترى الفاحشة ، و الأجسام السافرة.../... </B>