انه الحادي عشر من الشهر الحادي عشر، فعليك السلام والرحمة أيها الرجل الكبير. واذا كان الرقم يوحي بسكة الطريق، سواء أكان مكتوبا بالعربية أم بغيرها، فانك، لأمر ما، قد تركت لنا سكتين لا واحدة، كأنما يشغلك الرمز فتمدنا باشارة ألا ننكفئ ولا نعمي عيوننا عن مختلف الاحتمالات. وأنت الذي قيل فيك: انه يتدفأ بالماء ويمشي بين خيوط المطر مراهناً على ألا يصاب بالبلل ..
منذ ان ظهر ابو عمار في حياة الشعب الفلسطيني، كان محاطا بالخطر والحصار وتربص الأعداء. فليس قليلا ان تتقدم الصفوف مكافحاً زحام الظالمين والظلام. لقد حذفوا فلسطين من الخريطة وظنوا ان الأمر انتهى. ولكن مكر التاريخ كان يخبئ رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه. يتقدمهم رجل ما هو بالطويل، ولا هو بالخطيب المفوه، بل ان غربته الطويلة أزاحت لسانه شيئا ما عن لهجته المحلية. ولكن فيه ما هو أبقى وأنقى. فيه العناد واليقين من النصر ..
أتساءل، عما اذا كان هناك فلسطيني او فلسطينية لم يلتقط او تلتقط صورة مع ياسر عرفات. وقد تبدو هذه الملاحظة نوعاً من الطرفة. ولكننا عندما نتأمل مغزاه نرى انه كان يود ان يوزع نفسه في نفوس الفلسطينيين جميعا. فهو لهم ومن أجلهم جميعا. ولقد أوذي فيهم ومن أجلهم أذى يجعل سيرة حياته سرداً للألم والمعاناة والتحمل. فكان يسبق من يراه الى الابتسامة العريضة، والى جملته الجاهزة على رأس لسانه: يرونها بعيدة ونراها قريبة. وتأخذه العزة برب العزة فيثني بما هو أهل ويعيد الى الأذهان ان هذا العزيز القدير هو الذي وصف الفلسطينيين بشعب الجبارين ..
ولنا ان نقرأ شهادات الشهود وآراء المؤرخين. فنتذكر ان الرواد الأوائل قد انقسموا عقلاء ومجانين، أما العقلاء فخافوا من التسرع وبدت لهم تلك الانطلاقة، بلا امكانات، ضربا من الانتحار والجنون .. وأما المجانين فقد كان ياسر عرفات يقودهم الى الأمل، لقد عقل الأمر وحزمه ثم توكل .. وانتشر في دنيا العرب، ثم في الدنيا قاطبة، كأنه ابن معجزة قادرة على ان تجعله في مئة مكان في وقت واحد ..
وفي جهاده السياسي أزاح الجانب الذاتي كأنما لا ذات له. فكم من حاكم أساء اليه، او تآمر عليه، اورده خائبا، او شتمه شخصيا. لكن ردود افعال أبي عمار كانت تتحرك في منطقة مغايرة، فلم يسأل نفسه كيف يرد، بل كان يسأل خطته الى أين وصلت؟ وما هي الفائدة او الضرر، من مواصلة المحاولة او من القطيعة؟..
لذلك لم يحبه الكثير من الحكام العرب. لكنهم هابوه واحترموه واعترفوا له بما لا يملكون: تلك الكاريزما الموظفة في خدمة أخطر مشروع وطني، حتى انه قاد أطول ثورة في التاريخ. ولم يتعب بل نادى من خاف عليهم التعب ان يستريحوا ويعطوه اطفالهم ليواصل بهم ومعهم ومن أجلهم طريقه الى فلسطين ..
وحين واجه حصار بيروت، وحيداً إلا من شعبه ومقاتليه وشعب لبنان العربي وقواه الوطنية، كان عليه ان يقاتل اليأس يوماً بيوم وساعة بساعة، حتى عندما خاطبه أحد الحكام مقترحا على المقاتلين ان ينتحروا، وحتى عندما كشف أحد الحكام عن عداوة مبهمة لا تفسير لها. فلم يكن ذلك وقت العتاب بل المقاومة. وكان مقاتلوه - كما قال شاعر فلسطين الأكبر محمود درويش - جنوده في المعركة أنداده في ابداء الرأي .. وحين توجه الى قمة فاس بعد حصار بيروت، خرج حكام العرب الى المطار لاستقباله الا واحد .. لكن أبا عمار لم يغضب ولم يعتب، بل ذهب هو الى ذلك الحاكم، لا حباً ولا استخذاء، بل لتأخير قرار الانشقاق ..
كان رحمه الله يكرر الآية: ولو كنت فظاَ غليظ القلب لانفضوا من حولك. لكنه وان كان يمد يداً من الحرير، ظل مزودا بعزيمة من الحديد ..
هذا الذي هزم الحصار، أسداً واثقا في عرين المقاطعة، هو الذي رحل قبل عام. ترك لنا طريقا مستقيما كسكة الحديد، مقترحا علينا ألا نغلق العيون عن أي فرصة، فأضاف تاريخ استشهاده الى السكة سكة ثانية .. على ان تؤدي الطريقان الى فلسطين، وها هو الآن في مثواه المؤقت ينتظر .. والقدس على مرمى حلم