مذكرات حصار الراحل عرفات في حلقته الثانية
رغم تشجيع عرفات.. الجميع نطق بالشهادة استعدادا للموت
الرئيس ياسر عرفات أخذ يتفحص عيون المحاصرين المتواجدين معه في الطابق الثاني، وكأنه يرى فيها عالما آخر غير الذي يعيش فيه من قصف مدفعي، أو لعله كان يجرى في هذه اللحظات عملية اختبار لمن تمالك شجاعته في هذه الفترة العصيبة التي يداهم فيها الموت الجميع من كل اتجاه وزاوية، لا أعرف حقا ماذا كان يبحث عنه الرئيس في هذه اللحظة، لكني كنت متأكدا أنه يحث الجميع بنظراته الثاقبة على الصبر والثبات.
اليوم الثاني للحصار ـ 30/3
واصل الرئيس عرفات سيره في الممر الضيق وهو ممسك بجهاز الاتصال اللاسلكي، وقد لجأ لوسيلة الاتصال هذه بعد أن قطعت الاتصالات الأرضية والخلوية بالخارج، الأمر الذي شكل أزمة حقيقية للرئيس عرفات، فهو غير قادر على أن يجرى اتصالاته مع القادة والزعماء العرب والغربيين لحثهم على الضغط على شارون لوقف العدوان على مقره وعلى الشعب الفلسطيني.
اقترح العميد توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة الفلسطينية في الضفة الغربية أن تكون وسيلة الاتصالات مع الخارج هي جهاز الاتصالات اللاسلكي ، حيث يتصل الرئيس بالمسئولين الفلسطينيين وبعد ذلك تنقل رسائله إلى دول العالم عبر عدد من المسئولين الفلسطينيين. وبالفعل اتصل الرئيس عرفات مع الطيب عبد الرحيم أمين عام الرئاسة، وصائب عريقات وزير الحكم المحلي، وياسر عبد ربه وزير الثقافة والاعلام، وبمدير المخابرات العامة اللواء أمين الهندي الذي أراد منه نقل رسالة عاجلة إلى المسئولين العرب والغربيين والأميركيين لإطلاعهم على حقيقة الوضع في مقر الرئاسة.
الرئيس عرفات الوضع خطير جدا، القصف من كل اتجاه على المبنى، المطلوب تحرك جدي الآن وفي هذه اللحظات لوقف محاولات الاقتحام.
ما أنهى الرئيس عرفات مكالمته اللاسلكية حتى عرج للغرفة التي أتواجد بها وهي مقابل غرفته مباشرة، طلب منا القيام بوضع خزانة المكتب على النافذة الوحيدة للغرفة، كما طلب من المدنيين العاملين في مقر الرئاسة بأن نبقى منبطحين على الأرض خوفا على سلامتنا من الإصابة بالرصاص الإسرائيلي الذي يأتي من كل اتجاه.
ورغم تشجيع الرئيس عرفات لنا، فان الجميع نطق بالشهادة استعدادا للموت القادم، فالانفجارات كان دويها يتصاعد ويتلاحق.
وفي أثناء الصمت القاتل الذي ساد ممر الطابق الثاني كان الرائد وليد عبدو من حرس الرئيس الخاص يتلقى مكالمة خاصة من أحد أخواله بواسطة جهاز لاسلكي وبادره الرائد وليد بكلمة (سامحني، سامحني يا خالي) حتى أن طلب المسامحة وصل مسامع الرئيس عرفات، كلمات المسامحة كان لها وقع خاص لم نسمعه من قبل، بل تأكد الجميع أنها تخرج من شفاه من وضع نصب عينيه الشهادة، وفي هذه الأثناء كان الضابط وليد حمد يخط بيده الثابتة على جدار الممر كلمة (أهلا بروائح الجنة). ومضت الدقائق ثقيلة وبطيئة أمام القصف المتواصل.
في اليوم الثاني استطاعت قوات الاحتلال الإسرائيلي الدخول إلى شبكة الاتصالات اللاسلكية الخاصة بحرس الرئيس، وبدأنا نسمع عبر الأجهزة اللاسلكية ضباط الاحتلال الإسرائيلي يتحدثون إلى المحاصرين يطالبونهم بالاستسلام وأن قوات الاحتلال ستتعامل مع الحرس باحترام إذا ما سلموا أنفسهم. فيما يرد أحد حراس الرئيس عليهم بالقول (اذهب إلى الجحيم... أنتم من يجب أن يسلموا أنفسهم ويرحلوا من هنا... فيما أجاب الرائد سهيل عيسى من قوات أمن الرئاسة الـ(17) بقوله أنتم من دخلتم رام الله، وعليكم أن تفكروا كيف ستخرجون منها أحياء... و.
انهمك الرئيس عرفات بتفقد وتفحص غرف المقر، وفي الأثناء يطلب من بعض الحرس أخذ الراحة والاسترخاء ليتمكنوا من المناوبة والقيام بواجباتهم فيما بعد، لكن دوي المدافع أخذ يشتد ويمنع الجميع من النوم.
لم أصدق أبدا أن خيوط الشمس الذهبية قد بدأت تخترق الشقوق التي أحدثتها القذائف في المبنى، أذكر أن غفوت وأنا أجلس القرفصاء من شدة الإرهاق الذي أصابني.
السبت ـ اليوم الثالث للحصار ـ 31/3
الشعور بالخطر يتعاظم مع كل دقيقة تمر، ومحاولات الاقتحام لمبنى الرئاسة، ونفدت المياه وكميات التموين في المقر، وما زاد الطين بلة ان إمكانية الذهاب إلى المراحيض أصبحت غير واردة بالحسبان، فكل خطوة غير محسوبة ستكلفك حياتك.
وطوال اليوم الثالث من الحصار كانت قوات الاحتلال تعزز من تواجدها في محيط مقر الرئاسة وتواصل محاولات اقتحامها لمقر الرئاسة عبر فتح المزيد من الثغرات الداخلية في المباني الملاصقة لمقر الرئيس عرفات، فيما قامت قوات الاحتلال بعمليات تمشيط واسعة بداخل المباني التي استطاعت الوصول إليها خوفا من وجود جيوب للمقاومة.
ومع ساعات المساء هدأت حدة القصف ثم توقف كليا، وتناهى إلى مسامعنا طلب قوات الاحتلال عبر مكبرات الصوت من المحافظ مصطفى عيسى أبو فراس محافظ رام الله والبيرة، والذي كان محاصرا مع الرئيس عرفات الخروج إليهم للتفاهم كما قالوا.
نزل إليهم وكان بانتظاره في مرآب الرئيس عرفات قائد اللواء الإسرائيلي العسكري الذي احتل مقر الرئاسة، وضابط استخبارات كبير والعقيد أبو (عمري) مسئول الارتباط العسكري الإسرائيلي، حيث طلبوا من المحافظ أبو فراس إبلاغ الرئيس عرفات رسالة مفادها أن لديهم قرارا باقتحام مقر الرئيس عرفات لأخذ المطلوبين بداخله. رد عليهم المحافظ أنه وبحكم الاتفاقات الموقعة بين الجانبين لا يمكنكم الدخول إلى مقر الرئاسة، قاطعه قائد الحملة العسكرية الإسرائيلي بقوله لا توجد اتفاقات فما كان على المحافظ سوى القول أنه سينقل الرسالة إلى الرئيس عرفات، وذهب دون أن يرجع إليهم وعقب المحافظ أبو فراس على تلك المحادثة مع القادة العسكريين بقوله ان لديهم إصرارا على إذلال الفلسطينيين.
كان الإسرائيليون قد قطعوا الاتصال بمسئول الارتباط العسكري الفلسطيني العميد ربحي عرفات الذي تواجد أيضا داخل الحصار مع الرئيس عرفات، وكان مهمة العميد عرفات الاتصال والتنسيق مع الجانب الإسرائيلي في حال نشبت خلافات ومواجهات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، إلا أن الحكومة الإسرائيلية قررت ألغاء مهمة الارتباط العسكري بين الجانبين، وأعادت ما يسمى بالإدارة المدنية التي كان يعمل بها فترة الاحتلال الإسرائيلي الأولى منذ عام 1969.
الأمر الذي يؤكد أن إسرائيل ألغت عمليا السلطة الفلسطينية بأجهزتها التي أفرزتها اتفاقية أوسلو وبقية الاتفاقات المبرمة بين الجانبين.
وأصبحت تتعامل مع السلطة الفلسطينية بأنها سلطة خاضعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأن رموز السلطة الفلسطينية يجب من الآن فصاعدا أن تتعامل مع الأدوات الاحتلالية وليس تلك الأدوات والأجهزة التي أفرزتها الاتفاقات.
نصف الساعة التي خرج بها المحافظ مصطفى عيسى كانت تعني دهرا للبعض، فهي ستحدد ملامح المعركة القادمة... ومع عودة المحافظ ارتفعت حالة الاستنفار في صفوف الجميع.
يبدو أن عدم رد المحافظ على رسالة الإسرائيليين أغاظهم، فاقترب جنود الاحتلال إلى بوابات مقر الرئيس الداخلية بحماية الدبابات وبدأوا بطرق الأبواب المؤدية إلى مقر الرئيس عرفات عندها أيقن الجميع أن الاقتحام وشيك.
في هذه اللحظة ارتفع صوت الرئيس عرفات عاليا خلال اتصاله مع صائب عريقات بواسطة اللاسلكي طالبا منه سرعة التحرك واجراء الاتصالات مع الأطراف الدولية والعربية لابلاغهم بما يجرى على الأرض وما يمكن أن تشهده اللحظات القادمة من ارتكاب مجازر حقيقية، فأجاب صائب (ما أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن تنادى) فرد الرئيس هذه مؤامرة. أيضا كان على وسيلة الاتصال الأخرى أمين عام الرئاسة الطيب عبد الرحيم الذي طلب منه ذات الشيء. دقائق معدودة وهو يرد على أسئلة الطيب عبد الرحيم وعريقات ويقول هم أي الإسرائيليون يكذبون... يكذبون، ها هي محاولات الاقتحام تتكرر. أكدوا أي للأطراف الدولية والعربية أكدوا لهم الحقيقة بأن قوات الاحتلال تواصل بكل قواها اقتحام المقر.
كان وزير الحرب الإسرائيلي يتحدث مع الأطراف الدولية وحتى العربية أن قوات جيشه توقفت عن عمليات قصف المقر.
وبينما كان صوت الرئيس عرفات يرتفع كانت القلوب تزداد خفقانا، والشفاه تتمتم بآيات من الذكر الحكيم والشهادة لا تفارق شفاه الجميع.
في هذه الأجواء القاتمة كان البعض منا يهمس في أُذن الآخر عن سيناريوهات مختلفة لاقتحام المقر.. ويبدو أن مخيلة المحاصر تكون عادة أكثر تفتحا وتحملا من التخيلات التي لا حد أو مدى لها. لكن لحظة الموت بدأت بالاقتراب رويدا رويدا، تشعر بها وتتحسسها كما تتحسس أطرافك.
كنت أحسد أحد العاملين في نقليات الرئيس عرفات ويدعى محمد النمر الذي واجه أزمة الموت بنوم عميق طوال ثلاثة أيام متتالية، فلا دوي القذائف ولا أزيز الرصاص أيقظه، ولا تكدس المتواجدين داخل الغرفة... نعم أجزم أنه كان يمارس بوعي تام رياضة اليوغا التي تدخله عالمه الخاص.
هذا الوضع دفع بالمهندس باسل للقول يبدو أننا في يوم واحد دخلت عليه الفصول الأربعة مرة واحدة فالنيران المشتعلة التي أحدثتها القذائف المدفعية غيرت معالم المكان والزمان.
الثلاثة أيام الأولى من الحصار كانت قاسية بكل تفاصيلها، لكني حسمت أمري وتوكلت على الله العلي القدير بأن الشهادة هي مطلب كل مؤمن محتسب، هذا الشعور أدخل الطمأنينة لنفسي، ولم اعد بقذائف المدافع وأزيز الرصاص، ولكني تألمت كثيرا لوالدتي التي شعرت بألمها وحزنها، لكني كنت متأكدا أن صلواتها ودعاءها الدائمين ستحميني من بربرية الاحتلال.
كانت مشكلة جميع من في المقر وعددهم نحو (300) هي نفاد السجائر، كنت أحمل معي أربع علب وقت حضوري إلى المقر، وكان الشاب خالد الحلو يتبرع باستمرار بسجائره ولكن سرعان ما نفدت أيضا عشنا تجربة الحرمان مرة أخرى ليس فقط للسجائر وانما للطعام أيضا وتجددت آلام الأمعاء الخاوية.
فرح غير اعتيادي في مقر الرئاسة
تفاجأ جميع من في المقر بوجود تجمع كبير من الأجانب أمام البوابة الشرقية الخارجية للرئاسة، عصر اليوم الثالث للحصار.. وهم يرفعون اللافتات ويرددون الهتافات بصوت مرتفع حتى أن صداه وصل للرئيس عرفات، اطلق جنود الاحتلال النار فوق رؤوسهم في محاولة منهم لردعهم لكنهم لم يرتدعوا وواصلوا تقدمهم إلى أن باتوا قريبين من البوابة الداخلية التي كانت محصنة بالمتاريس، استعد حرس الرئيس لاستقبال هؤلاء الأجانب الذين جاؤوا على غفلة من أمرهم وفتحوا فسحة في التحصينات من أجل إتاحة المجال لمرورهم، وبالفعل قدموا إلى المقر وسط تصفيق حار وابتهاج من في داخل المقر، وعلى الفور صعد جميعهم إلى داخل غرفة الرئيس عرفات الذي استقبلهم بحفاوة، وأكد لهم أن خطوتهم هذه تعبير عن الضمير الحي للذين يرفضون همجية الاحتلال الإسرائيلي التي تمارس أبشع الأساليب ضد الفلسطينيين ومن أعمال قتل وتدمير ومجازر مماثلة لصبرا وشاتيلا.
كان وفد الأجانب الذين تمكنوا من دخول مقر الرئيس المحاصر ينضم إلى لجنة الحماية الشعبية الدولية ويتشكل من عدة جنسيات، وأيضا من عرب جزائريين ومغاربة يحملون جنسيات فرنسية.
مسئولة الوفد كانت كلوديا لويوستيك فرنسية الجنسية، تعمل مدرسة للغة الفرنسية في نابلس، قالت لشبكة فلسطين الاخبارية لحظة سماعي لما يجري في رام الله والبيرة المحاصرتين وامكانية ارتكاب مجزرة حقيقية إذا ما حاولت قوات الاحتلال اقتحام مقر الرئيس عرفات قررت التوجه إلى رام الله بأي ثمن.
قالت كلوديا ان أعضاء الوفد يحملون قناعات بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون هو مجرم حرب قديم، ويريد تدمير الشعب الفلسطيني، واتفق أعضاء الوفد مع كلوديا بأن لا سلام مع شارون وحكومته.
يعتقد أعضاء الوفد أن الصمود الفلسطيني يعزز من صمودهم في دائرة الصراع الجاري حاليا ضد العولمة، والتي تريد الولايات المتحدة الأميركية من خلال العولمة إحكام سيطرتها على العالم. وأكدت كلوديا أن الفلسطينيين ومعهم الوفد المتضامن سيكسبون الحرب، وأن الاسرائيليين هم الخاسرون في النهاية. وقاطعت الحديث الدائر نتايا غولان يهودية تحمل الجنسية الكندية ومتزوجة من فلسطيني من نابلس، وقالت لشبكة فلسطين الاخبارية أريد أن يعيش أولادي بسلام، ولكن في ظل اختلال المفاهيم والكيل بمكيالين من قبل الولايات المتحدة الأميركية، أشك أن يستطيع أولادي أن يعيشوا بسلام بسلام في وطنهم... شارون وبوش ينظران للدم اليهودي بأنه دم ثمين، أما الدم الفلسطيني فما زال رخيصا وفق معتقدهما.
رفض أعضاء الوفد الأجنبي الأربعون أن يعاملوا كضيوف مميزين لدى المحاصرين، بل تطوعوا لكل الأعمال الروتينية التي يقوم بها الحرس من أعمال نظافة وغيرها حتى أن بعض المتطوعات مثل كلوديا قامت بمحاولة طبخ ما تبقى من وجبات .لقد جلبوا معهم بعض علب الحلوى وقاموا بتوزيعها على المقاتلين، وفي ساعات الليل يتوزع أعضاء الوفد على جميع غرف الرئاسة لجعل أنفسهم دروعا بشرية أمام هجمات قوات الاحتلال المحتملة.
جوليا الألمانية كانت فتاة تكره العنف بجميع أشكاله، ومن أنشط أعضاء الوفد، كنا نشاهدها وهي تمزق قميصها لتضميد جراح أحد المصابين، كانوا كخلية نحل، فهذا البروفيسور جرار ابن الستين يواصل ليله بنهار في كتابة التقارير التي تكشف نازية الاحتلال، ولم يكل من كتابة الفظائع الإسرائيلية طوال أيام الحصار رغم الاعياء الذي بدا على جسده النحيل المرهق.
وللأسف الشديد لم يمض على المغربي محمد بن بركة والذي يحمل الجنسية المغربية سوى يومين حتى علم من القنصلية الفرنسية بموت والده، كان مشهدا مؤثرا عندما اصطف الحرس وقاموا بتقديم واجب العزاء له. لم يطلب من القنصلية الفرنسية ان تخرجه من مقر الرئيس المحاصر بل فضل البقاء مع الرئيس عرفات رغم فاجعته بموت والده.
رغم الحزن في الوفد الأجنبي كان هناك مناسبة سعيدة لأحدهم، حيث احتفل نيكلسون بول 55 ـ من اقليم الباسك في أسبانيا ـ بعيد ميلاده في إحدى غرف الرئاسة، وكان سعيدا بحفلة عيد الميلاد المتواضعة، وكمفاجأة لضيوف الحفل حمل صينية صغيرة تحتوي على بعض قطع الحلاوة والبندورة بديلا عن قطع الكيك. وأشعل شمعة ثم اطفأها مع تمنيات الجميع بعيد ميلاد سعيد، وكان مشهدا مؤثرا عندما قام العميد توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة في الضفة الغربية بإهداء بول ميدالية بيت لحم (2000) والعلم الفلسطيني، وبعد ذلك تناولوا الصور التذكارية لهذا الحفل الغريب