لم تستغرق يافا، ذات الأعوام السبعة، في النوم، كعادتها في ليلة موعد زيارة والدها عصام الفروخ، المعتقل في سجن بئر السبع، منذ العام 2003 والمحكوم عليه بالمؤبد.
اقتنعت يافا بالنوم باكرا وبدون مشاكسات كالمعتاد، بعد أن حضرت صورا وأوراق مدرسة وامتحانات لها ستهديها لوالدها، ليتواصلا معا حتى موعد الزيارة التالية، كما أطمأنت على تجهيز أشياء أخرى كان والدها طلب منها استحضارها إلى معتقله.
زيارة يافا هذه لم تكن كغيرها من الزيارات التي ترافقها فيها عادة عمتها، بسبب الرفض الأمني لوالدتها نجود القاسم، فهي كما أوضحت لها والدتها ستتمكن هذه المرة، وبسبب العيد من الجلوس مع والدها مدة ساعة إذ ستلتقيه مباشرة وجها لوجه، وستتحدث معه عن قرب بدلا من الحديث معه عبر هاتف من وراء الأسلاك والزجاج اللذان يفصلاها عن حضن والدها. فهذه إجراءات الاحتلال في التعامل مع زيارة ذوي الأسرى لأبنائهم، فلا يستطيع الوالد احتضان يافا ولا الوشوشة في أذنها، ولا الإحساس بحرارة اللقاء مع وحيدته التي لم يعش معها كثيرا.
ذهبت يافا دون أن يخطر لها أن عوائق جديدة ستقف في وجهها، وهي من اعتادت عد الأبواب التي تمر عبرها، قبل اللقاء بالوالد، والتي تصل عادة إلى سبعة أبواب وعند كل واحد منها كانت يافا تخضع لعملية تفتيش وتدقيق، هذه المرة مختلف الأمر ولم تكن يافا تعرفه ولم تعتد عليه من قبل، وهو عزل الأب في زنزانة منفردة، ما حال دون رؤيته.
عادت يافا هذه المرة متوترة، وفي جعبتها مصطلحات جديدة، وأول ما قالته لأمها عند باب حافلة الصليب الأحمر التي تقل عائلات الأسرى عادة في هذه الزيارات، 'ما زرت لأن بابا معاقب في العزل'، وكان هناك رغبة في البكاء تعتصرها لم تفصح عنها.
احتضنت الأم ابنتها محاولة التخفيف من وطأة الموقف عليها، والتخفيف عنها، ومساعدة طفلتها على رؤية شيء إيجابي في هذه الرحلة، حتى لا تؤثر عليها هذه التجربة سلبا في الزيارات القادمة.
وظلت يافا لأيام تنتابها مشاعر متناقضة من الحزن لعدم رؤية والدها، وفرحة لأنها تمكنت من ترك لوالدها 3 صور لها من أصل خمسة حملتها، إضافة إلى الكتب واحتياجات والدها.
موعد زيارة يافا لوالدها ترافقت هذه المرة مع خروج الأسرى، هو ما زاد من حزنها، وتقول لوالدتها 'وصلوا الأسرى، أفرجوا عنهم'، ومرارة السؤال بادية على ملامحها وهي التي اعتادت السؤال ذاته مع خروج كل دفعة من الأسرى 'أنا وينته دوري' وكأن الإفراج عن والدها إفراج عنها.
وتقول والدتها إن طفلتها لم تعش كثيرا مع والدها، خاصة وأنه طورد بعد ولادتها بثلاثة ولم يعد للحياة معها في ذات البيت، وبدأت تتعرف عليه فعليا في اللقاءات القصيرة والتي كانت تجمعهما في أوقات متباعدة وتحت ضغط الخوف من مداهمة المكان، وأثناء محاكمته في سجن عوفر، حيث اعتادت اصطحابها معها في هذه المحاكمات وفي السجن، فصورة والدها مرتبطة بذهنها بأب تفصله عنها دائما قضبان السجن وجدرانه.
وتضيف والدتها 'الغريب أن هذه الزيارات، رغم صعوبتها وقسوتها، تعطيها قوة معنوية ونفسية عالية جدا، وتصبح أقوى مما هي عليه في العادة، وتشعر أنها مدعومة عندها من يساندها ولها أحد غير والدتها، ولها أب موجود، يحميها ويدافع عنها، وتصبح السيطرة عليها أصعب، وتأخذها هذه القضية أيام لتعود إلى طبيعتها.
وتضيف والدتها، تستعد يافا للزيارة بطريقة احتفالية واضحة في اختيارها لملابسها واهتمامها بشعرها، تبحث عن أجمل ملابسها، حتى أنها تطلب وضع أقراطها، وهي من ترفض ذلك عادة في الأيام العادية وفي المناسبات الخاصة بالعائلة وكأنها تخص والدها وحده بهذه الطقوس الاحتفالية.
وترفض يافا التعبير عن مشاعرها بعد زيارتها لوالدها، كما رفضت التفاعل معنا في الأمر، حيث كانت إجاباتها دائما 'بعرفش'، فقط عرفنا منها أنها وضعت صورتها التي رسمها لها والدها في السجن في إطار وعلقتها في غرفتها.
وتوضح أمها هذا الجانب في شخصية يافا، وتقول 'عندما تعود عادة بتكون مبسوطة جدا لدرجة 'الانتشاء' وتعود حيوية جدا ونشيطة وتريد اللعب، ولا تعبر عن ما جرى بينها وبين والدها من أحاديث، وعادة يكون كلامها مع والدها قليلا كما يوضح في رسائله'.
يافا لا تعبر عن مشاعرها في هذه الزيارات، وتحتفظ به لنفسها، وقد لا تسعفها الكلمات، لكنها هذه المرة عبرت، ولكن بصورة مختلفة عما نتوقع نحن الكبار، فقالت لوالداتها 'بتعرفي شو صار معي، أنا مثل فداء (بطلة درس اللغة العربية للصف الثاني الابتدائي بعنوان' زيارة إلى سجن النقب) صار معي مثلها، ارجعت أنا بدون زيارة بابا مثل ما عادت فداء'.
في يوم ما اجتاحت يافا موجة بكاء شديدة، حين شرحت لها والدتها أبيات لقصيدة الشاعر أبو القاسم الشابي الأكثر شهرة 'إذا الشعب يوما أراد الحياة'، عند وصولها للشطر 'ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر'.
ولا تعرف نجود حتى اليوم إذا ما كانت ابنتها تخفي مشاعرها، أم أن حجم تأثرها بغياب والدها لم تستشعره بعد، ولم يترك آثارا واضحة في شخصيتها، خاصة وأن جدها لأمها يحاول تعويضها عن غياب والدها، بالاستجابة لكل طلباتها، ويافا تستنجد به في كل موقف يواجهها، ولا يرفض لها طلبا مهما كبر، حتى أنه ابتاع مهر لها بناء على طلبها، كما وجود الأخوال في البيت الذي تعيش فيه يخفف كثيرا من غياب الأب، وهم يقومون برعايتها وتحقيق كل طلباتها، وعندما تنزعج قليلا من والدتها تلجأ إليهم مستنجدة.
يافا واحدة من مئات أطفال فلسطين الذين غيب السجن آباءهم وراء قضبانه، وكثيرا منهم كيافا لم يعرف والده جيدا، ولم ينتظر عودته إلى البيت، ومنهم من صار شابا أو صبية بعيدا عن عيون أبائهم الذين يتصورون نموهم عبر الصور.