2002: الله أكبر.. يكبر فلسطيني وهو ينازع بعد أن اخترقت رصاصة صدره, في حين تمطر قوات الاحتلال شوارع نابلس القديمة بالنار. وقرب المكان يقوم مئات الفلسطينيين بدفن شهدائهم بينما تبقى بعض الجثث ممددة في مفترقات الشوارع المقفرة.
الدخول إلى نابلس أشبه بالدخول إلى قلب جحيم الحرب.. يستقبلك رشق رصاص، ويصيح أحدهم من أعلى نافذة وهو يحمل بندقية كلاشنيكوف "ارحلوا"، لكن الفلسطينيين اللذين يقودان المجموعة الصغيرة يقولان له بالعربية "لا تطلقوا النار.. نحن صحفيون".
تطل عشرات الوجوه شيئا فشيئا من خلف جدران تلك المنازل القديمة التي تعود إلى أكثر من 100 عام, عمارات هشة من حجارة وطين باتت نصف مدمرة بفعل القذائف الصاروخية التي انهالت عليها في الأيام الأخيرة.
في وسط الشارع جثتان متروكتان وجثة ثالثة على عتبة منزل، هؤلاء الرجال الثلاثة استشهدوا قبل بضع دقائق فقط برشقات رشاش دبابة. أحد الشهداء الثلاثة هو أحمد طبوق الناشط في حركة فتح وهو من زعماء الانتفاضة الأولى التي تفجرت في الأراضي الفلسطينية عام 1987، وكانت السلطة قد اعتقلته عندما دخلت نابلس لأنه رفض حل مجموعته العسكرية. أما الشهيد الثاني فهو صديق لطبوق, وقد حاول انتشال جثته غير أنه استشهد بدوره, حسبما يقول شهود عيان.
يشير المقاومون الفلسطينيون وهم رجال من أعمار متفاوتة, إلى المقبرة الجماعية التي دفنت فيها للتو سبع جثث، فجنود الاحتلال يمنعون سيارات الإسعاف من الدخول, والجثث سرعان ما تبدأ بالتحلل.
على مسافة بضعة أمتار تلجأ بعض النساء برفقة أطفال إلى أحد المساجد.. النساء المسنات يصلين بخشوع. في الليلة الماضية دمر جنود الاحتلال مسجد الخضراء أقدم مساجد المدينة، ويعتقد المقاومون الفلسطينيون أن تدمير المسجد لم يكن خطأ غير مقصود من قوات الاحتلال.
دوي الطلقات النارية ومدافع الدبابات يتردد منذ ساعتين، غير أن رجال المقاومة ما زالوا صامدين لم يفقدوا الأمل. ويبقى عشرات النساء والرجال المحرومين من الهاتف والكهرباء والماء على قناعة بأن هذه "معركتهم الكبرى" الأخيرة ضد الاسرائيليين, مؤكدين أن جيش الاحتلال لن يدخل المدينة إلا وهم جثث هامدة.
يوضح ناشط ملثم قائلا "هذا الخيار الوحيد أمامنا". يصمد الفلسطينيون في مقاومة يائسة، فالوسائل التي في متناول كل من الطرفين غير متناسبة إطلاقا.
وقد استشهد عشرات الفلسطينيين في نابلس منذ وصول دبابات الاحتلال الاسرائيلي الأربعاء الماضي تحت ستار الليل. غير أن السلطات توضح بأن هناك الكثير من الجثث التي شوهدت أمس الأحد ولم تحصَ بعد, كما أن هناك جثثا إضافية متروكة في شوارع أخرى من المدينة. وتردد فلسطينية رافعة ذراعيها وكأنما للاستنجاد بالسماء "أين الدول العربية؟ أين كنتم حتى الآن أنتم الصحفيون؟".
تحلق مروحيات فوق المنطقة.. الدبابات قريبة جدا. عبور هذه الشوارع التي دمر القسم الأكبر منها يزداد صعوبة. يطلق الناشطون الفلسطينيون النار في الجو لحماية الفلسطينيين.. يشيرون إلى العبوات الناسفة التي زرعوها لتجنب انفجارها فيهم.
وأفضل ملجأ للاحتماء من تبادل إطلاق النار يبقى الأقبية القديمة المحفورة في الصخر أو الأنفاق التي تعبر الحي القديم. في داخلها علقت صور فلسطينيين قتلوا في المواجهات خلال الأشهر الماضية. يقول أحد الأطفال "هؤلاء شهداؤنا". لن تتمكن أي دبابة من دخول هذه المتاهة من الأزقة حيث يسهل الاختباء.
يكفي أن يمكث الواحد هنا 20 دقيقة لينتابه ذاك الإحساس بالموت والخوف والخراب، لكن مائة صفحة ومئات الصور لن تكون كافية لوصفه.
عند الخروج من الحي العتيق, تنتصب الدبابات الاسرائيلية مترصدة. يرمق الجنود الاسرائيليون الصحفيين بنظرة أكثر قسوة من الرشاشات.. لكن شيئا لا يحصل. ومع كل خطوة يبتعد إطلاق النار أكثر وتهدأ القلوب وتستعيد نبضها الطبيعي, ليبقى الفلسطينيون وحدهم في مواجهة مصيرهم.
ووصفت صحيفة "معاريف" تحت عنوان "الشوارع تفجرت تحت القوات" القتال في مدينة نابلس على النحو التالي: "هذا ببساطة امر لا يصدَّق. كلما استطعنا التقدم لعشرة امتار يفجرون ضدنا عبوة ناسفة. كل المنطقة مفخخة، وكل لحظة يفجرون حولنا اشياء"؛ هذا ما قاله امس ضابط عسكري واصفا السيطرة على القصبة في نابلس التي تديرها كتيبة المظليين وجولاني. ويتوقع الجيش استكمال السيطرة على القصبة هذا المساء. وقال الضابط ان القتال في القصبة يجري ببطء شديد بسبب المقاومة الفلسطينية الشديدة. واضاف ان كمية العبوات التي استُخدمت ضد القوة كانت "كبيرة جدا، وواجه المقاتلون كل انواع الالغام او المعوقات التي تخطر على البال". واضاف "ان الفلسطينيين فجروا علينا براميل مليئة بالمتفجرات. فخخوا السيارات، الشاحنات، المنازل، الشرفات واعمدة الكهرباء. ووضعت عبوات اخرى على الاشجار وتحت اغطية المجاري. اطلقوا النار على القوات من كل اتجاه والمعارك جرت من منزل الى منزل، من زقاق الى آخر".
وقال الضابط ان "الذروة كانت حين تفجرت الشوارع تحت القوات" واتضح ان الفلسطينيين الذين استعدوا لاجتياح الجيش في القصبة حفروا الحفر ووضعوا داخلها كميات كبيرة من المواد الناسفة واعادوا تعبيد الشارع من جديد "كانت هناك عبوات في الشارع بوزن اكثر من 100 كلغم. لقد تعلموا من عبر الانفجارات تحت الدبابات في غزة واملوا ان يمسوا بآلياتنا المحصنة". وخلال القتال اصيب بجروح بالغة جندي من وحدة 202 التابعة لسلاح المظليين.